للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك عليه، ونزل مقدوره به ولم يرفع لهذه الأمة علما تأوي إليه، وملجأ تنعطف إليه، أن يلقى ربّه تبارك وتعالى مفرطا ساهيا عن أداء الحق إليها، واعتبر عند ذلك من أحياء قريش وغيرها من يستحق أن يستند هذا الأمر إليه، ويعول في القيام به عليه ممن يستوجبه بدينه وأمانته، وهديه وصيانته، بعد اطراح الهوى والتحرّي للحق والتزلف إلى الله عز وجل بما يرضيه. وبعد أن قطع الأقاصي وأسخط الأقارب فلم يجد أحدا يولّيه عهده ويفوّض إليه الخلافة بعده غيره لفضل نسبه، وكرم خيمه، وشرف مرتبته، وعلو منصبه، مع تقاه وعفافه ومعرفته وحزمه وتفاوته، المأمون العيب الناصح الحبيب أبي المظفّر عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر، وفقه الله تعالى إذ كان أمير المؤمنين قد ابتلاه واختبره، ونظر في شأنه واعتبره فرآه مسارعا في الخيرات، سابقا إلى الجليات، مستوليا على الغايات، جامعا للماثرات، ومن كان المنصور أباه والمظفّر أخاه فلا غرو أن يبلغ من سبل البر مداه، ويحوي من خلال الخير ما حواه. مع أنّ أمير المؤمنين أيده الله بما طالع من مكنون العلم، ووعاه من مخزون الغيب، رأى أن يكون ولي عهده القحطاني الّذي حدّث عنه عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه، فلما استوى له الاختيار وتقابلت عنده الآثار، ولم يجد عنه مذهبا ولا إلى غيره معدلا خرج إليه من تدبير الأمور في حياته، وفوّض إليه الخلافة بعد وفاته، طائعا راضيا مجتهدا، وأمضى أمير المؤمنين هذا وأجازه وأنفذه، ولم يشترط فيه ثنيا ولا خيارا، وأعطى على الوفاء به في سرّه وجهره، وقوله وفعله، عهد الله وميثاقه وذمّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وذمة الخلفاء الراشدين من آبائه، وذمة نفسه أن لا يبدل ولا يغير ولا يحول ولا يزول. وأشهد على ذلك الله والملائكة وكفى باللَّه شهيدا، وأشهد من أوقع اسمه في هذا، وهو جائز الأمر ماضي القول والفعل بمحضر من ولي عهده المأمون أبي المظفر عبد الرحمن بن المنصور، وفقه الله تعالى وقيد له ما قلده، وألزمه نفسه ما في الذمة. وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وكتب الوزراء والقضاة وسائر الناس شهادتهم بخطوط أيديهم. وتسمى بعدها بولي العهد. ونقم أهل الدولة عليه ذلك فكان فيه حتفه، وانقراض دولته ودولة قومه والله وارث الأرض ومن عليها

.

<<  <  ج: ص:  >  >>