للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإذا استفحلت طبيعة الملك وحصل لصاحب الدّولة الاستبداد على قومه قبض أيديهم عن الجبايات إلّا ما يطير لهم بين النّاس في سهمانهم وتقلّ حظوظهم إذ ذاك لقلّة غنائهم في الدّولة بما انكبح من أعنّتهم وصار الموالي والصّنائع مساهمين لهم في القيام بالدّولة وتمهيد الأمر فينفرد صاحب الدّولة حينئذ بالجباية أو معظمها ويحتوي على الأموال ويحتجنها للنّفقات في مهمّات الأحوال فتكثر ثروته وتمتلئ خزائنه ويتّسع نطاق جاهه ويعتزّ على سائر قومه فيعظم حال حاشيته وذويه من وزير وكاتب وحاجب ومولى وشرطيّ ويتّسع جاههم ويقتنون الأموال ويتأثّلونها [١] . ثمّ إذا أخذت الدّولة في الهرم بتلاشي العصبيّة وفناء القليل المعاهدين للدّولة احتاج صاحب الأمر حينئذ إلى الأعوان والأنصار لكثرة الخوارج والمنازعين والثّوّار وتوهّم الانتقاض فصار خراجه لظهرائه وأعوانه وهم أرباب السّيوف وأهل العصبيّات وأنفق خزائنه وحاصله في مهمّات الدّولة وقلّت مع ذلك الجباية لما قدّمناه من كثرة العطاء والإنفاق فيقلّ الخراج وتشتدّ حاجة الدّولة إلى المال فيتقلّص ظلّ النّعمة والتّرف عن الخواصّ والحجّاب والكتّاب بتقلّص الجاه عنهم وضيق نطاقه على صاحب الدّولة ثمّ تشتدّ حاجة صاحب الدّولة إلى المال وتنفق أبناء البطانة والحاشية ما تأثّله آباؤهم من الأموال في غير سبيلها من إعانة صاحب الدّولة ويقبلون على غير ما كان عليه آباؤهم وسلفهم من المناصحة ويرى صاحب الدّولة أنّه أحقّ بتلك الأموال الّتي اكتسبت في دولة سلفه وبجاههم فيصطلمها وينتزعها منهم لنفسه شيئا فشيئا وواحدا بعد واحد على نسبة رتبهم وتنكّر الدّولة لهم ويعود وبال ذلك على الدّولة بفناء حاشيتها ورجالاتها وأهل الثّروة والنّعمة من بطانتها ويتقوّض بذلك كثير من مباني المجد بعد أن يدعمه أهله ويرفعوه. وانظر ما وقع من ذلك لوزراء الدّولة العبّاسيّة في بني قحطبة وبني برمك وبني سهل وبني طاهر وأمثالهم ثمّ في الدّولة الأمويّة بالأندلس عند


[١] تأثل المال: اكتسبه وثمّره.

<<  <  ج: ص:  >  >>