للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

انقضاء الجيلين تشرف الدّولة على نهاية عمرها الطّبيعيّ فيكون حينئذ العمران في غاية الوفور والنّماء ولا تقولنّ إنّه قد مرّ لك أنّ أواخر الدّولة يكون فيها الإجحاف بالرّعايا وسوء الملكة فذلك صحيح ولا يعارض ما قلناه لأنّ الإجحاف وإن حدث حينئذ وقلّت الجبايات فإنّما يظهر أثره في تناقص العمران بعد حين من أجل التّدريج في الأمور الطّبيعيّة ثمّ إنّ المجاعات والموتان تكثر عند ذلك في أواخر الدّول والسّبب فيه: إمّا المجاعات فلقبض النّاس أيديهم عن الفلح في الأكثر بسبب ما يقع في آخر الدّولة من العدوان في الأموال والجبايات أو الفتن الواقعة في انتقاص الرّعايا وكثرة الخوارج لهرم الدّولة فيقلّ احتكار الزّرع غالبا وليس صلاح الزّرع وثمرته بمستمرّ الوجود ولا على وتيرة واحدة فطبيعة العالم في كثرة الأمطار وقلّتها مختلفة والمطر يقوى ويضعف ويقلّ ويكثر والزّرع والثّمار والضّرع على نسبته إلّا أنّ النّاس واثقون في أقواتهم بالاحتكار فإذا فقد الاحتكار عظم توقّع النّاس للمجاعات فغلا الزّرع وعجز عنه أولو الخصاصة [١] فهلكوا وكان بعض السّنوات الاحتكار مفقودا فشمل النّاس الجوع وأمّا كثرة الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرناه أو كثرة الفتن لاختلال الدّولة فيكثر الهرج والقتل أو وقوع الوباء وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرّطوبات الفاسدة وإذا فسد الهواء وهو غذاء الرّوح الحيوانيّ وملابسه دائما فيسري الفساد إلى مزاجه فإن كان الفساد قويا وقع المرض في الرّئة وهذه هي الطّواعين وأمراضها مخصوصة بالرّئة وإن كان الفساد دون القويّ والكثير فيكثر العفن ويتضاعف فتكثر الحميّات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك وسبب كثرة العفن والرّطوبات الفاسدة في هذا كلّه كثرة العمران ووفوره آخر الدّولة لما كان في أوائلها من حسن الملكة ورفقها وقلّة المغرم وهو ظاهر ولهذا تبيّن في موضعه من الحكمة أنّ تخلّل الخلاء والقفر بين العمران ضروريّ ليكون تموّج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات


[١] الفقر وسوء الحال (المنجد) .

<<  <  ج: ص:  >  >>