للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العقدة فرأيت حاضرة الدنيا وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوّه، وتزهر الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه، قد مثل بشاطئ النيل نهر الجنّة ومدفع مياه السماء، يسقيهم العلل والنّهل سيحه، ويجني إليهم الثمرات والخيرات ثجّه [١] ومررت في سكك المدينة تغصّ بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم. وما زلنا نتحدّث بهذا البلد وبعد مداه في العمران، واتساع الأحوال، ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا حاجّهم وتاجرهم في الحديث عنه، سألت صاحبنا كبير الجماعة بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقري مقدمه من الحج سنة أربعين وسبعمائة فقلت له: كيف هذه القاهرة؟

فقال: من لم يرها لم يعرف عزّ الإسلام.

وسألت شيخنا أبا العباس بن إدريس كبير العلماء ببجاية مثل ذلك فقال: كأنما انطلق أهله من السحاب [٢] يشير إلى كثرة أممه وأمنهم العواقب.

وحضر صاحبنا قاضي العسكر بفاس الفقيه الكاتب أبو القاسم البرجي بمجلس السلطان أبي عنان، منصرفه من السفارة عنه إلى ملوك مصر وتأدية رسالته النبويّة [٣] إلى الضريح الكريم سنة ست وخمسين وسبعمائة فسألته عن القاهرة فقال.

أقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار: إنّ الّذي يتخيّله الإنسان فإنّما يراه دون الصورة التي تخيّلها الاتساع الخيال عن كل محسوس، إلا القاهرة، فإنّها أوسع من كل ما يتخيّل فيها. فأعجب السلطان والحاضرون لذلك.

ولما دخلتها أقمت أياما وانثال عليّ طلبة العلم بها يلتمسون الإفادة مع قلّة البضاعة، ولم يوسعوني عذرا، فجلست للتدريس بالجامع الأزهر منها.

ثم كان الاتصال بالسلطان فأبرّ مقامي وآنس الغربة، ووفّر الجراية من صدقاته شأنه


[١] الثج: الصب الكثير.
[٢] وفي نسخة ثانية الحساب وهي الأصح وبذلك يقول المقريزي في خططته: «قال شيخنا الأستاذ أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله تعالى: أهل مصر كأنما فرقوا من الحساب» الخطط ١/ ٧٩ طبع مصر ١٣٢٤ هـ.
[٣] الرسالة النبويّة اعتادوا كتابتها في مناسبات عديدة، كان يبعثون بها الى قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بواسطة رسول خاص الى الروضة الشريفة حيث تقرأ قرب القبر النبوي الكريم وفي نفح الطيب أمثلة عديدة لهذه الرسائل.

<<  <  ج: ص:  >  >>