للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القاهرة، وأصبحت معاشا للفقراء من الفقهاء والصوفية، وكان ذلك من محاسن هذه الدّولة التّركية، وآثارها الجميلة الخالدة.

وكنت لأوّل قدومي على القاهرة، وحصولي في كفالة السلطان، شغرت مدرسة بمصر من إنشاء صلاح الدين بن أيّوب، وقفها على المالكيّة يتدارسون بها الفقه، ووقف عليها أراضي من الفيّوم تغلّ القمح، فسمّيت لذلك القمحيّة، كما وقف أخرى على الشّافعية هنالك، وتوفي مدرّسها حينئذ، فولّاني السلطان تدريسها، وأعقبه بولاية قضاء المالكية سنة ست وثمانين وسبعمائة، كما ذكرت ذلك من قبل، وحضرني يوم جلوسي للتّدريس فيها جماعة من أكابر الأمراء تنويها بذكري، وعناية من السلطان ومنهم بجانبي، وخطبت يوم جلوسي في ذلك الحفل بخطبة ألممت فيها بذكر القوم بما يناسبهم، ويوفي حقّهم، ووصفت المقام، وكان نصّها:

الحمد للَّه الّذي بدأ بالنّعم قبل سؤالها، ووفّق من هداه للشّكر على منالها، وجعل جزاء المحسنين في محبّته، ففازوا بعظيم نوالها. وعلّم الإنسان الأسماء والبيان، وما لم يعلم من أمثالها، وميّزه بالعقل الّذي فضّله على أصناف الموجودات وأجيالها، وهداه لقبول أمانة التّكليف، وحمل أثقالها. وخلق الجنّ والإنس للعبادة، ففاز منهم بالسّعادة من جدّ في امتثالها، ويسّر كلّا لما خلق له [١] ، من هداية نفسه أو إضلالها، وفرغ ربّك من خلقها وخلقها وأرزاقها وآجالها. والصّلاة على سيّدنا ومولانا محمد نكتة الأكوان وجمالها، والحجّة البالغة للَّه على كمالها، الّذي رقّاه في أطوار الاصطفاء، وآدم بين الطّين والماء، فجاء خاتم أنبيائها وأرسلها [٢] ، ونسخ الملل بشريعته البيضاء فتميّز حرامها من حلالها، ورضي لنا الإسلام دينا، فأتمّ علينا النّعمة بإكمالها [٣] .

والرّضى عن آله وأصحابه غيوث رحمته المنسجمة وطلالها [٤] ، وليوث ملاحمه [٥]


[١] يشير الى الحديث: «كل ميسر لما خلق له» ، والّذي رواه الإمام أحمد في مسندة.
[٢] ورد في كلام كثير من علماء المغرب والأندلس، جمع رسول على أرسال. ولم يرد في معاجم اللغة هذا الجمع. والأصح أن يقول ورسلها.
[٣] يشير الى الآية ٣ من سورة المائدة: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» ٥: ٣.
[٤] الطلال جمع طلل، وهو أخف المطر.
[٥] الملاحم جمع ملحمة، وهي الوقعة العظيمة القتل، وموضع القتال، والحرب.

<<  <  ج: ص:  >  >>