للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذلك هو معنى النّوم كما تقدّم في أوّل الكتاب. ثمّ إنّ هذا الرّوح القلبيّ هو مطيّة للرّوح العاقل من الإنسان والرّوح العاقل مدرك لجميع ما في عالم الأمر بذاته إذ حقيقته وذاته عين الإدراك. وإنّما يمنع من تعلّقه [١] للمدارك الغيبيّة ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن وقواه وحواسّه. فلو قد خلا من هذا الحجاب وتجرّد عنه لرجع إلى حقيقته وهو عين الإدراك فيعقل كلّ مدرك. فإذا تجرّد عن بعضها خفّت شواغله فلا بدّ له من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرّد له وهو في هذه الحالة قد خفّت شواغل الحسّ الظّاهر كلّها وهي الشّاغل الأعظم فاستعدّ لقبول ما لك من المدارك اللّائقة من عالمه. وإذا أدرك ما يدرك من عوالمه رجع به إلى بدنه. إذ هو ما دام في بدنه جسمانيّ لا يمكنه التّصرّف إلّا بالمدارك الجسمانيّة. والمدارك الجسمانيّة للعلم إنّما هي الدّماغيّة والمتصرّف منها هو الخيال. فإنّه ينتزع من الصّور المحسوسة صورا خياليّة ثمّ يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت الحاجة إليها عند النّظر والاستدلال. وكذلك تجرّد النّفس منها صورا أخرى نفسانيّة عقليّة فيترقّى التّجريد من المحسوس إلى المعقول والخيال واسطة بينهما. ولذلك إذا أدركت النّفس من عالمها ما تدركه ألقته إلى الخيال فيصوّره بالصّورة المناسبة له ويدفعه إلى الحسّ المشترك فيراه النّائم كأنّه محسوس فيتنزّل المدرك من الرّوح العقليّ إلى الحسّيّ. والخيال أيضا واسطة.

هذه حقيقة الرّؤيا. ومن هذا التّقرير يظهر لك الفرق بين الرّؤيا الصّالحة وأضغاث الأحلام الكاذبة فإنّها كلّها صور في الخيال حالة النّوم. ولكن إن كانت تلك الصّور متنزّلة من الرّوح العقليّ المدرك فهو رؤيا. وإن كانت مأخوذة من الصّور الّتي في الحافظة الّتي كان الخيال أودعها إيّاها منذ اليقظة فهي أضغاث أحلام.

واعلم أنّ للرّؤيا الصادقة علامات تؤذن بصدقها وتشهد بصحّتها فيستشعر


[١] وفي نسخة أخرى: تعقله.

<<  <  ج: ص:  >  >>