للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحسن التّركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم. ولو رام صاحب هذه الملكة حيدا عن هذه السّبل المعيّنة والتّراكيب المخصوصة لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانه لأنّه لا يعتاده ولا تهديه إليه ملكته الرّاسخة عنده. وإذا عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجّه وعلم أنّه ليس من كلام العرب الّذين مارس كلامهم. وربّما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما تصنع أهل القوانين النّحويّة والبيانيّة فإنّ ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء. وهذا أمر وجدانيّ حاصل بممارسة كلام العرب حتّى يصير كواحد منهم. ومثاله: لو فرضنا صبيّا من صبيانهم نشأ وربي في جيلهم فإنّه يتعلّم لغتهم ويحكم شأن الإعراب والبلاغة فيها حتّى يستولي على غايتها. وليس من العلم القانونيّ في شيء وإنّما هو بحصول هذه الملكة في لسانه ونطقه. وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل بحفظ كلامهم وأشعارهم وخطبهم والمداومة على ذلك بحيث يحصّل الملكة ويصير كواحد ممّن نشأ في جيلهم وربي بين أجيالهم [١] . والقوانين بمعزل عن هذا واستعير لهذه الملكة عند ما ترسخ وتستقرّ اسم الذّوق الّذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان والذوق وإنّما هو موضوع لإدراك الطّعوم. لكن لمّا كان محلّ هذه الملكة في اللّسان من حيث النّطق بالكلام كما هو محلّ لإدراك الطّعوم استعير لها اسمه. وأيضا فهو وجدانيّ اللّسان كما أنّ الطّعوم محسوسة له فقيل له ذوق. وإذا تبيّن لك ذلك علمت منه أنّ الأعاجم الدّاخلين في اللّسان العربيّ الطّارئين عليه المضطرّين إلى النّطق به لمخالطة أهله كالفرس والرّوم والتّرك بالمشرق وكالبربر بالمغرب فإنّه لا يحصل لهم هذا الذّوق لقصور حظّهم في هذه الملكة الّتي قرّرنا أمرها لأنّ قصاراهم بعد طائفة من العمر وسبق ملكة أخرى إلى اللّسان وهي لغاتهم أن يعتنوا بما يتداوله أهل مصر بينهم في المحاورة من مفرد ومركّب لما يضطرّون إليه من ذلك. وهذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار وبعدوا عنها كما تقدّم. وإنّما لهم في


[١] وفي نسخة أخرى: أحيائهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>