للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فى حق خضر صاحب موسى عليهما السلام: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف: ٦٥] .. فصدق علماء الرسوم عندنا فيما قالوا: إن العلم لا يكون إلا بالتعلم، وأخطأوا فى اعتقادهم أن الله لا يُعَلِّم مَن ليس بنبى ولا رسول، يقول الله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ} [البقرة: ٢٦٩] وهى العلم، وجاء بـ "مَن" وهى نكرة. ولكن علَماء الرسوم لما آثروا الدنيا على الآخرة، وآثروا جانب الخلق على جانب الحق، وتعوَّدوا أخذ العلم من الكتب ومن أفواه الرجال الذين من جنسهم، ورأوا فى زعمهم أنهم من أهل الله بما علموا وامتازوا به عن العامة، حجبهم ذلك عن أن يعلموا أن لله عباداً تولَّى الله تعليمهم فى سرائرهم بما أنزله فى كتبه وعلى ألسنة رسله وهو العلم الصحيح عن العالِم المعلِّم الذى لا يشك مؤمن فى كمال علمه ولا غير مؤمن، فإن الذين

قالوا: إن الله لا يعلم الجزئيات ما أرادوا نفى العلم عنه، وإنما قصدوا بذلك أنه تعالى لا يتجدد له علم بشىء، بل علمها مندرجة فى علمه بالكليات، فأثبتوا له العلم سبحانه مع كونهم غير مؤمنين، وقصدوا تنزيهه سبحانه فى ذلك وإن أخطأوا فى التعبير عن ذلك، فتولى الله بعنايته لبعض عباده تعليمهم بنفسه بإلهامه وإفهامه إياهم {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: ٨] ، فى إثر قوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: ٧] ، فبيَّن لها الفجور من التقوى إلهاماً من الله لها لتجتنب الفجور وتعمل بالتقوى.

وكما كان أصل تنزيل الكتاب من الله على أنبيائه، كان تنزيل الفهم على قلوب بعض المؤمنين به، فالأنبياء عليهم السلام ما قالت على الله ما لم يقل لها، ولا أخرجت ذلك من نفوسها ولا من أفكارها، ولا تعلَّمت فيه، بل جاءت من عند الله، كما قال تعالى: {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، وقال فيه: إنه {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: ٤٢] .. وإذا كان الأصل المتكلَّم فيه من عند الله، لا من فكر الإنسان ورويته - وعلماء الرسوم يعلمون ذلك - فينبغى أن يكون أهل الله العاملون به أحق بشرحه وبيان ما أنزل الله فيه من علماء الرسوم، فيكون شرحه أيضاً تنزيلاً من عند الله على قلوب أهل العلم كما كان الأصل. وكذا قال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه فى هذا الباب: "ما هو إلا فهم يؤتيه الله من يشاء من عباده فى هذا القرآن". فجعل ذلك عطاء من الله، يعبر عن ذلك العطاء بالفهم عن الله، فأهل الله أولى به من غيرهم. فلما رأى أهل الله أن الله قد جعل الدولة فى الحياة الدنيا لأهل الظاهر من علماء الرسوم، وأعطاهم التحكم فى الخلق بما يفتون به، وألحقهم بالذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون - وهم فى إنكارهم على أهل الله يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً - سلَّم أهل الله لهم أحوالهم لأنهم علموا من أين تكلموا، وصانوا عنهم أنفسهم بتسميتهم الحقائق إشارات، فإن علماء الرسوم لا ينكرون الإشارات، فإذا كان فى غد يوم القيامة يكون الأمر فى الكل، كما قال القائل:

<<  <  ج: ص:  >  >>