للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال ابن رجب: وكان- رحمه الله- ذا عبادة وتهجّد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتألّه، ولهج بالذّكر، وشغف بالمحبّة والإنابة والافتقار إلى الله تعالى والانكسار له، والإطراح بين يديه على عتبة عبوديته. لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علما، ولا أعرف بمعاني القرآن والحديث والسّنّة وحقائق الإيمان منه، وليس هو بالمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله.

وقد امتحن وأوذي مرّات، وحبس مع الشيخ تقي الدّين في المرّة الأخيرة بالقلعة منفردا عنه، ولم يفرج عنه إلّا بعد موت الشيخ.

وكان في مدة حبسه مشتغلا بتلاوة القرآن وبالتدبّر والتفكّر، ففتح عليه من ذلك خير كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلّط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف والخوض في غوامضهم، وتصانيفه ممتلئة بذلك.

وحجّ مرّات كثيرة، وجاور بمكّة، وكان أهل مكّة يذكرون عنه من شدّة العبادة، وكثرة الطّواف أمرا يتعجّب منه، ولازمت مجالسه قبل موته أزيد من سنة، وسمعت عليه «قصيدته النّونية» الطويلة في السّنّة [١] ، وأشياء من تصانيفه، وغيرها.

وأخذ عنه العلم خلق كثير، من حياة شيخه وإلى أن مات، وانتفعوا به. وكان الفضلاء يعظّمونه ويسلّمون له، كابن عبد الهادي وغيره.

وقال القاضي برهان الدّين الزّرعي عنه: ما تحت أديم السّماء أوسع علما منه.

ودرّس بالصّدرية، وأمّ بالجوزية مدّة طويلة.

وكتب بخطّه ما لا يوصف كثرة.


[١] أقول: وتسمى «الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية» وسيذكرها المؤلف باسمها هذا بعد قليل، وقد قام بطبعها المكتب الإسلامي بدمشق سنة (١٣٨٢) هـ مع شرحها للشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى الشرقي المتوفى سنة (١٣٢٩) هـ، وهي تمثل عقيدة السّلف الصالح، وقد حذّر الشارح فيها من أهل وحدة الوجود، ومن الجهميين والمعطلين، وأثنى فيها على علماء أهل السّنّة والجماعة الذين ثبتوا على العقيدة الصحيحة (ع) .

<<  <  ج: ص:  >  >>