للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وممّا اخترع معاوية- رضي الله عنه- من أمور الملك: ديوان الخاتم.

وهذا ديوان معتبر من أكبر الدواوين، ولم تزل السنّة جارية به إلى أواسط دولة بني العبّاس فأسقط، ومعناه: أن يكون ديوان، وبه نوّاب فإذا صدر توقيع من الخليفة بأمر من الأمور، أحضر التوقيع إلى ذلك الديوان، وأثبتت نسخته فيه، وحزم بخيط وختم بشمع- كما يفعل في هذا الزمان بكتب القضاة- وختم بخاتم صاحب ذلك الديوان.

وكان الّذي حمل معاوية- رضي الله عنه- على اختراع هذا الديوان، أنّه أحال رجلا على زياد بن أبيه أمير العراق بمائة ألف درهم، فمضى ذلك الرجل وقرأ الكتاب (وكانت تواقيعهم تصدر غير مختومة فجعل المائة مائتين) فلما رفع زياد حسابه إلى معاوية- رضي الله عنه- أنكر معاوية ذلك، وقال: ما أحلته إلا بمائة ألف، ثم استعادها منه ووضع ديوان الخاتم، فصارت التواقيع تصدر منه مختومة، لا يدري أحد ما فيها، ولا يتمكّن أحد من تغييرها. وكان معاوية- رضي الله عنه- مصروف الهمّة إلى تدبير أمر الدنيا، يهون عليه كلّ شيء إذا انتظم أمر الملك. فانظر إلى وصف عبد الملك بن مروان له، فإنه لحظ فيه هذا المعنى. قالوا: إنّ عبد الملك بن مروان مرّ بقبر معاوية- رضي الله عنه فترحّم عليه، فقال له رجل: قبر من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: «قبر رجل كان والله فيما علمته ينطق عن علم، ويسكت عن حلم. كان إذا أعطى أغنى وإذا حارب أفنى» ووصفه أيضا عبد الله بن العباس- وكان من النقّاد- فقال: «ما رأيت أليق من أعطاف [١] معاوية بالرّياسة والملك» . وقال له بعض بني أمية: «والله لو قدرت أن تستكثر [٢] بالزّنج لاستكثرت بهم لينتظم لك أمر الملك» .

وكان معاوية- رضي الله عنه- نهما شحيحا عند الطّعام، على كرمه وسماحته. فأمّا نهمّه. فقالوا: إنه كان يأكل في كلّ يوم خمس أكلات أخرهنّ


[١] الأعطاف: الأكتاف، وهي أبرز مواضع الثوب من البدن.
[٢] تستكثر: تكثّر أعوانك وجندك.

<<  <   >  >>