للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

له موضعا يسكنه ويبني فيه مدينة له ولعياله، ولأهله ولجنده. فانحدر إلى جرجرايا [١] وأصعد إلى الموصل، ثمّ أرسل جماعة من الحكماء ذوي اللبّ والعقل وأمرهم بارتياد موضع، فاختاروا له مدينته التي تسمّى: مدينة المنصور. وهي بالجانب الغربيّ قريبة من مشهد موسى والجواد- عليهما السّلام- فحضر إلى هناك واعتبر [٢] المكان ليلا ونهارا فاستطابه، وبنى به المدينة.

ومن طريف ما اتّفق من ذلك، أنّ راهبا من رهبان الدير المعروف بدير الرّوم سأل بعض أصحاب المنصور: من يريد أن يبني في هذا الموضع مدينة؟

فقال له ذلك الرجل: أمير المؤمنين المنصور خليفة الناس. قال: ما اسمه؟ قال:

عبد الله. قال: فهل له اسم غير هذا؟ قال: اللَّهمّ لا، إلا أن كنيته أبو جعفر، ولقبه المنصور. قال الراهب: فاذهب إليه وقل له: لا يتعب نفسه في بناء هذه المدينة، فإنّا نجد في كتبنا أن رجلا اسمه مقلاص يبني ها هنا مدينة ويكون لها شأن من الشأن، وأنّ غيره لا يتمكّن من ذلك. فجاء ذلك الرّجل إلى المنصور وأخبره بما قال الرّاهب فنزل المنصور عن دابّته وسجد طويلا ثمّ قال: أما والله كان اسمي مقلاصا وكان هذا اللقب قد غلب عليّ ثمّ ذهب عنّي.

وذاك أنّ لصّا كان في صباي يسمّى مقلاصا وكان تضرب به الأمثال، وكانت لنا عجوز تربيني، فاتّفق أنّ صبيان المكتب جاءوا يوما إليّ وقالوا لي:

نحن اليوم أضيافك. ولم يكن معي ما أنفقه عليهم. وكان للعجوز غزل فأخذته وبعته بما أنفقته عليهم، فلمّا علمت أني سرقت غزلها سمّتني مقلاصا. وغلب هذا اللقب عليّ ثمّ ذهب عنّي. والآن عرفت أني أبني هذه المدينة.

ونبّهه بعض عقلاء النّصارى على فضيلة مكانها فقال: يا أمير المؤمنين تكون على الصّراة بين دجلة مع الفرات، فإذا حاربك أحد كانت دجلة والفرات خنادق لمدينتك ثمّ إنّ الميرة [٣] تأتيك في دجلة من ديار بكر [٤] تارة، ومن البحر


[١] جرجرايا: موقع جنوبي بغداد على دجلة.
[٢] اعتبر: فحص وتحرّى.
[٣] الميرة: الطّعام والمئونة المدّخرة.
[٤] ديار بكر: بلاد شرقيّ الأناضول وشماليّ دجلة.

<<  <   >  >>