للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثمّ ملك بعده ابنه الإمام الناصر لدين الله أبو العبّاس أحمد بن المستضيء بأمر الله

بويع بالخلافة في سنة خمس وسبعين وخمسمائة.

كان الناصر من أفاضل الخلفاء وأعيانهم، بصيرا بالأمور مجرّبا سائسا، مهيبا مقداما، عارفا شجاعا، متأيّدا حادّ الخاطر والنادرة، متوقّد الذكاء والفطنة، بليغا غير مدافع عن فضيلة علم، ولا نادرة فهم، يفاوض العلماء مفاوضة خبير، ويمارس الأمور السّلطانيّة ممارسة بصير، وكان يرى رأي الإماميّة [١] ، طالت مدّته، وصفا له الملك وأحبّ مباشرة أحوال الرعيّة بنفسه، حتّى كان يتمشّى في الليل في دروب بغداد ليعرف أخبار الرعيّة وما يدور بينهم، وكان كلّ أحد من أرباب المناصب والرّعايا يخافه ويحاذره بحيث كأنه يطلع عليه في داره، وكثرت جواسيسه وأصحاب أخباره عند السّلاطين وفي أطراف البلاد، وله في مثل هذه قصص غريبة، وصنّف كتبا، وسمع الحديث النبويّ- صلوات الله على صاحبه- وأسمعه، ولبس لباس الفتوة وألبسه وتفتّى له خلق كثيرون من شرق الأرض وغربها ورمى بالبندق [٢] ورمى له ناس كثيرون، وكان باقعة زمانه ورجل عصره في أيامه انقرضت دولة آل سلجوق بالكلّية وكان للناصر من المبارّ والوقوف ما يفوت الحصر وبنى من دور الضيافات والمساجد والرّبط [٣] ما يتجاوز حدّ الكثرة، وكان مع ذلك يبخّل، وكان وقته مصروفا إلى تدبير أمور المملكة وإلى التولية والعزل والمصادرة وتحصيل الأمور، يقال عنه: إنه ملأ بركة من الذّهب فرآها يوما وقد بقي يعوزها حتى تملأ وتفيض شيء يسير، فقال: ترى أعيش حتّى أملأها، فمات قبل ذلك، ويقال إنّ المستنصر شاهد هذه البركة فقال: ترى أعيش حتّى أفنيها! وكذلك فعل، مات الناصر في سنة اثنتين وعشرين وستّمائة.


[١] الإماميّة: فرقة من الشّيعة.
[٢] البندق: كرات من الرّصاص، ومنها البندقيّة التي اخترعت فيما بعد لرمي الرصاص أو البندق.
[٣] الرّبط: النّزل تربط بها الخيول للاستراحة والمبيت.

<<  <   >  >>