للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مشارق الأَرْض ومغاربها بلغ أرض بابل فمرض مرضا شديدا أشفق من مرضه أَن يموت بعد ما دوخ البلاد وجمع الأَمْوَال، فنزل بابل فدعا كاتبه، فَقَالَ: خفف عَلِي فِي الموتة بكتاب تكتبه إِلَى أمي تعزيها بي، واستعن ببعض علماء أَهْل فارس، ثُمَّ اقرأه [عَلِي] [١] . فكتب الكتاب.

بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من الإسكندر بْن قيصر رفيق أَهْل الأَرْض بجسده قليلا، ورفيق أَهْل السماء بروحه طويلا إِلَى أمه روقية ذَات الصفاء الَّتِي لَمْ تمتع بثمرتها فِي دار القرب، وَهِيَ مجاورته عما قليل فِي دار البعد، يا أمتاه، يا ذَات الحكمة [٢] أسألك برحمتي وودي وولادتك إياي، هل وجدت لشيء قرارا باقيا وخيالا دائما، ألم تري إلى الشجرة كيف تنضر أغصانها وتخرج ثمرتها وتلتف أوراقها ثُمَّ لا يلبث الغصن أَن يتهشم والثمر أَن يتساقط، والورق أَن يتباين؟! ألم تري النبت الأزهر يصبح نضيرا ثُمَّ يمسي هشيما؟! ألم تري إِلَى النهار المضيء ثُمَّ يخلفه الليل المظلم؟! ألم تري إِلَى القمر الزاهر ليلة بدره كَيْفَ يغشاه الكسوف؟! ألم تري إِلَى شهب النار الموقدة مَا أوشك مَا تخمد؟! ألم تري إِلَى عذب المياه الصافية مَا أسرعها إِلَى البحور المتغيرة؟! ألم تري إِلَى هَذَا الخلق كَيْفَ يعيش فِي الدُّنْيَا قَدِ امتلأت منه الآفاق، واستعلت بِهِ الأشياء، وولهت بِهِ الأبصار والقلوب؟! إِنَّمَا هما شيئان: إِمَّا مولود وإما ميت، كلاهما مقرون بالفناء، ألم تري أَنَّهُ قيل لهذه الدار روحي بأهلك فإنك لست لَهُمْ بدار؟! يا واهبة الْمَوْت [٣] ، ويا موروثة الأحزان، ويا مفرقة بَيْنَ الأحبة، ويا مخربة العمران، ألم تري إِلَى كُل مخلوق يجري عَلَى مَا لا يدري؟ هل رأيت يا أماه معطيا لا يأخذ، ومقرضا لا يتقاضى، ومستودعا لا يسترد وديعته؟! يا أماه إِن كَانَ أحد بالبكاء حقيقا فلتبك السماء عَلَى نجومها، ولتبك الحيتان عَلَى بحورها وليبك الجو عَلَى طائره، ولتبك الأَرْض عَلَى أولادها والنبت الَّذِي يخرج منها، وليبك الإِنْسَان عَلَى نَفْسه الَّتِي تموت فِي كُل ساعة وعند كُل طرفة. يا أمتاه إِن الْمَوْت لا يعتقني [٤] من أجل أني كنت عارفا أَنَّهُ نازل بي، فلا


[١] ما بين المعقوفتين: من الهامش.
[٢] في المرآة: «يا ذات الحلم» .
[٣] في المرآة: «يا والدة الموت» .
[٤] في المرآة: «الموت لا يدعني من أجل» .

<<  <  ج: ص:  >  >>