للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إسماعيل بن أبي فديك قَالَ: كان عندنا رجل يكنى أبا نصر من جهينة، ذاهب العقل/، في غير ما الناس فيه، لا يتكلم حتى يكلم، وكان يجلس مع أهل الصفة في آخر مسجد رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم، وكان إذا سئل عن شيء أجاب فيه جوابا حسنا مغربا، فأتيته يوما وهو في مؤخر المسجد مع أهل الصفة، منكسا رأسه، واضعا جبهته بين ركبتيه، فجلست إلى جنبه، فحركته فانتبه فزعا، فأعطيته شيئا كان معي، فأخذه فقال: قد صادف منا حاجة، فقلت لَهُ: يا أبا نصر، ما الشرف؟ قَالَ: حمل ما ناب العشيرة، أدناها وأقصاها، والقبول من محسنها، والتجاوز عن مسيئها. قلت له: فما السخاء؟ قال:

جهد مقل. قُلْتُ: فما البخل؟ قال: أف، وحول وجهه عني. قلت: تجيبني؟ قال:

أجبتك.

وقدم علينا هارون الرشيد فأخلي له المسجد، فوقف على قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى منبره، وفي موقف جبريل عليه السلام، واعتنق أسطوانة النبوة، ثم قَالَ: قفوا بي على أهل الصفة. فلما أتاهم حرك أبو نصر وقيل: هو أمير المؤمنين. فرفع رأسه وقال:

أيها الرجل، إنه ليس بين عباد الله وأمة نبيه ورعيتك وبين الله خلق غيرك، وإن الله سائلك عنهم، فأعد للمسألة جوابا، وقد قال عمر بن الخطاب: لو ضاعت سخلة على شاطئ الفرات لخاف عمر أن يسأله الله عنها. فبكى هارون وقَالَ: يا أبا نصر، إن رعيتي غير رعية عمر، ودهري غير دهر عمر. فقال لَهُ: هذا والله غير مغن عنك، فانظر لنفسك، فإنك وعمر تسألان عما خولكما الله. فدعى هارون بصرّة فيها ثلاثمائة/ دينار، فَقَالَ: ادفعوها إلى أبي نصر، فَقَالَ أبو نصر: ما أنا إلا رجل من أهل الصفة، فادفعوها إلى فلان يفرقها عليهم ويجعلني كرجل منهم.

وكان أبو نصر يخرج كل يوم جمعة صلاة الغداة، فيدخل السوق مما يلي الثنية، فلا يزال يقف على مربعة مربعة ويقول: أيها الناس، اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة، إن العبد إذا مات صحبه أهله وماله وعمله، فإذا وضع في قبره رجع أهله وماله وبقي عمله، فاختاروا لأنفسكم ما يؤنسكم في قبوركم رحمكم اللَّه. فلا يزال يعمل ذلك في مربعة مربعة حتى يأتي مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يصلي الجمعة، فلا يخرج من المسجد حتى يصلي العشاء الآخرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>