للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الألوف من الناس ((ألا فليبلغ الشاهد الغائب)) ، وهو مكرر في الصحيين وغيرهما، وفي بعض الروايات عن ابن عباس ((فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته: فليبلغ الشاهد الغائب)) الخ وحديث ((بلغوا غني ولو آية)) رواه البخاري في صحيحه والترمذي ولولا ذلك لما انتشر الإسلام ذلك الانتشار السر يع في العالم.

بل زعم بعضهم - كما قيل - أنه صلى الله عليه وسلم عزل أبا بكر من إمارة الحج وولاها علياً. (١)

وهذا بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسألة عملية عرفها الخاص والعام، والحق أن علياً كرم الله وجهه كان مكلفا بتليغ أمر خاص (٢)

وكان في تلك الحجة تابعأً لأبي بكر في إمارته العامة في إقامة ركن الإسلام الاجتماعي العام، حتى كان أبو بكر يعين له الوقت الذي يبلغ فيه. يا على قم فبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم التصريح به في الروايات الصحيحة، كم أمر بعض الصحابة بمساعدته على هذا التبليغ كما تقدم في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما.


(١) جاء في بعض الروايات الشيعية المصدر: أنه ((لمّا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة مع أبي بكر وأنزل الله عليه: تترك من ناجيته غير مرّة، وتبعث من لم أناجه؟!))
ولاحظ أخي القارئ هنا: أنّ الله - بزعمهم - عاتب رسول الله، وبيّن خطأه.. وهذا يناقض دعوى العصمة المطلقة التي يصفون بها الرّسول والأئمّة.. ثم تقول الرواية: ((فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ براءة منه ودفعها إلى علي رضي الله عنه فقال له علي: أوصني يا رسول الله، فقال له: إنّ الله يُوصيك ويناجيك، قال: فناجاه يوم براءة قبل صلاة الأولى إلى صلاة العصر)) . أمالي الصدوق: (٤٤٤) ، بحار الأنوار للمجلسي ٣٩/١٥٥.
والظاهر أنه عزَّ على القوم أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم الصديق رضي الله عنه ابتداء؛ لذا فالرواية التي تقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر رضي الله عنه بسورة براءة إلى المشركين ثم عزله وأخذها منه ودفعها إلى علي رضي الله عنه لم تسلم من رد القوم لها، فرووا أن الباقر قال: ((لا والله ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ببراءة، أهو كان يبعث بها ثم يأخذها منه؟! ... )) إلخ الرواية. انظر: تفسير العياشي (٢/٨٠) ، نور الثقلين (٢/١٨٠) ، تفسير البرهان (٢/١٠١) ، بحار الأنوار (٣٥/٢٩٥) .
وهناك روايات تذكر أن عليا رضي الله عنه كان يحتج ويعتذر ليذهب هو بكونه أصغر سناً من النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في بحار الأنوار (٣٥/٣٠٣) يوم أن أرسله النبي صلى الله عليه وسلم بسورة براءة، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنك خطيب وأنا حديث السن)) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لابد أن تذهب بها أو أذهب بها)) ، فقال علي رضي الله عنه: ((أما إذا كان كذلك، فأنا أذهب يا رسول الله)) .
(٢) أى نبذ عهود المشركين، كما هو مفصل في التفسير. (ر)
أقول: يؤيد مفهوم التبليغ الذي ذكره المؤلف رحمه الله ما أخرجه البخاري (١٦٠٢) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: (بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر نؤذن بمنى ألاَّ يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان) قال حميد بن عبد الرحمن ثمَّ أردف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًّا فأمره أن يؤذن ببراءة قال أبو هريرة: فأذن معنا عليّ في أهل منى يوم النحر..) .
حديث ابن عباس يرويه مقسم عنه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليا فبينا أبو بكر في بعض الطريق إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء فخرج أبو بكر فزعا فظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو علي فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر عليا أن ينادي بهؤلاء الكلمات فانطلقا فحجا فقام علي أيام التشريق فنادى: ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك فسيحوا في الارض أربعة أشهر ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوت بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن وكان علي ينادي فإذا عيي قام أبو بكر فنادى بها) . أخرجه الترمذي.
وله شاهد مرسل من حديث أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنهم بنحوه وفيه: (فخرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدرك أبا بكر بالطريق فلما رآه أبو بكر قال: أأمير أم مامور؟ فقال: بل مأمور ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج. . . حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال. . . .) الحديث. أخرجه ابن إسحاق في (السيرة) (٤ / ١٩٠) بسند حسن مرسل.
وعن زيد بن أثيع قال: (سألت عليا رضي الله عنه بأي شئ بعثت - يعني يوم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه في الحجة؟ قال: بعثت بأربع لا يدخل الجنة الا نفس مؤمنة ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد هده إلى مدته ولا يحج المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا) . أخرجه الترمذي (١ / ١٦٥، ٢ / ١٨٤) والدارمي (٢ / ٦٨) وأحمد (١ / ٧٩) والحميدي (٤٨) كلهم عن سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق عن زيد به وقال الترمذي: (حديث حسن ورواه الثوري عن أبي اسحاق عن بعض أصحابه عن علي) .
قال الحافظ في الفتح ٨/٣٢٠ كتاب التفسير باب {وأذان من الله ورسوله ... } : ((وأخرج أحمد بسند حسن عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث ببراءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال: لا يُبَلِّغُها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي، فبعث بها مع علي)) . (المسند ١٣/٤٣٤ رقم ١٣٢١٤) .
قلت: وأخرجه الترمذي في سننه ٥/٢٧٥ رقم ٣٠٩٠ والنسائي في خصائص علي (٧٠) ولفظ الترمذي: ((لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهل بيتي فدعا عليا فأعطاه إياه)) . وقال: ((حسن غريب من حديث أنس)) .
قلت: وإسناده حسن، رجاله كلهم ثقات غير سماك بن حرب، فقد قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بأخرة فكان ربما يلقن. (التقريب رقم ٢٦٢٤) .
قلت: روايته هنا عن أنس بن مالك رضي الله عنه وليست عن عكرمة، فهاتان روايتان تبينان ما بلغه علي رضي الله عنه وهما نص في هذا الأمر.
ويؤكد كون الحديث مخصوصاً بنبذ العهد ما ثبت من كون النبي صلّى الله عليه وسلّم قد بعث قبل هذا الحديث وبعده عدداً من الصحابة مع بعض الوفود القادمة عليه غير عليّ رضي الله عنه بعد هذا الحديث كمعاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن، وكذلك قبل هذا الحديث ولا أدل عليه من بعثه مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى أهل المدينة قبل مقدمه صلّى الله عليه وسلّم، وكل هذه البعوث لتبليغ الناس دين الإسلام ودعوتهم له، فبان بحمد الله بطلان كون هذا التبليغ مطلقاً، بل هو تبليغ مخصوص لنبذ العهد فقط والأحاديث إنما تدل على أن بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً إنما كان تأييداً لأبي بكر رضي الله عنهما لا تبديلاً له، ولا تأميراً عليه، بل كان أبو بكر هو أمير الحج، وعلي داخل تحت إمرته.

<<  <  ج: ص:  >  >>