للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وكل الأقوال التي استشهد بها من أقوال الجبريين أقوال ساقطة مرفوضة، لا تمثل الحقيقة الإسلامية في هذا الموضوع، فلا حاجة إلى استعراضها وبيان فساد مضامينها، لأنها مبينة على فاسد، وكل ما بني على فاسد فهو فاسد.

ويسأل الجبريون فيقولون: هل يفعل العاصي إذن معصيته معانداً لإرادة الخالق أم موافقاً لها؟

ونقول في الجواب: إن تصوير السؤال على هذا الوجه فيه مغالطة، فالقضية لا تقع فقط بين احتمالين اثنين، ولكنها تقع بين احتمالات ثلاثة وهي:

الاحتمال الأول: توجيه المشيئة الإلهية لإجبار المخلوق على الطاعة.

الاحتمال الثاني: توجيه المشيئة الإلهية لإجبار المخلوق على المعصية.

الاحتمال الثالث: توجيه المشيئة الإلهية لجعل المخلوق ذا إرادة حرة غير مجبرة.

وقد توجهت المشيئة الإلهية فعلاً إلى اختيار الاحتمال الثالث بالنسبة إلى الناس والجن، فاستحال أن تتوجه إلى أضدادها.

وحينما يختار المخلوق أمراً مما جعل الله له فيه سلطة الاختيار فإن اختياره لذلك الأمر لا يعتبر بحال من الأحوال معانداً لإرادة الله في كل شيء، لأن الله تعالى هو الذي أراد أن يمنحه سلطة الاختيار ليمتحنه، كما أنه لا يقتضي أن يكون الله جلَّ وعلا هو الذي أجبره على أن يختار هذا الاختيار، ولا يقتضي أيضاً أن يكون الله جلَّ وعلا راضياً عن كل ما يختاره المخلوق ذو الإرادة الحرة.

ويظهر لنا هذا الموضوع تماماً في تجاربنا الإنسانية، فإن من نمنحه حرية التصرف في عمل ما، قد يفعل ما يسرنا ويرضينا، وقد يفعل ما يسوؤنا ويغضبنا، مع إمكاننا أن نعزله عن ذلك العمل، ونسلبه حرية التصرف فيه، ولا يكون عمله معانداً لإرادتنا، بل قد نمد له، ونبقي له طاقة العمل وساحة التنفيذ بين يديه، لنمتحنه ونختبره، وقد نوبخه ونؤدبه، وقد ننذره ونحذره، حتى يحين وقت مؤاخذته، ونحن في كل ذلك نشاهد سوء تصرفه، وقد نرى من الحكمة أن لا نعارضه، وأن لا نضع

<<  <   >  >>