للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما قولُه - صلى الله عليه وسلم - في الحديثِ الصحيحِ: ((ما يصيبُ المؤمن من همِّ ولا نصب ولا حزن، إلاَّ كفر اللهُ به من خطاياه)) . فهذا يدلُّ على أنه مصيبةٌ من اللهِ يصيبُ بها العبْدَ، يكفّرُ بها من سيئاتِه، ولا يدلُّ على أنه مقامٌ ينبغي طلبُه واستيطانُه، فليس للعبدِ أن يطلب الحزن ويستدعيّه ويظنُّ أنهُ عبادة، وأنَّ الشارعَ حثَّ عليه، أو أَمَرَ به، أو رَضِيَهُ، أو شَرَعَهُ لعبادِهِ، ولو كان هذا صحيحاً لَقَطَعَ - صلى الله عليه وسلم - حياتَهُ بالأحزانِ، وصَرَفَهَا بالهمومِ، كيفَ وصدرُه مُنْشَرِحٌ ووجهُه باسمٌ، وقلبُه راضٍ، وهو متواصلُ السرورِ؟! .

وأما حديثُ هنْدِ بن أبي هالة، في صفةِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ((أنهُ كان متواصلَ الأحزانِ)) ، فحديثٌ لا يثبُتُ، وفي إسنادهِ من لا يُعرَفُ، وهو خلاف واقعِهِ وحالِهِ - صلى الله عليه وسلم -.

وكيف يكونُ متواصلَ الأحزانِ، وقد صانَهُ اللهُ عن الحزنِ على الدنيا وأسبابها، ونهاهُ عن الحزنِ على الكفارِ، وغَفَرَ له ما تقدَّم من ذنبِهِ وما تأخَّرَ؟! فمن أين يأتيهِ الحزنُ؟! وكيفَ يَصلُ إلى قلبِهِ؟! ومن أي الطرق ينسابُ إلى فؤادِهِ، وهو معمورٌ بالذِّكرِ، ريّانٌ بالاستقامةِ، فيّاضٌ بالهداية الربانيةِ، مطمئنٌّ بوعدِ اللهِ، راض بأحكامه وأفعالِه؟! بلْ كانَ دائمَ البِشْرِ، ضحوك السِّنِّ، كما في صفته ((الضَّحوك القتَّال)) ، صلوات الله وسلامه عليه. ومَن غاصَ في أخبارهِ ودقَّقَ في أعماقِ حياتِهِ واسْتَجْلَى أيامَهْ، عَرَفَ أنه جاءَ لإزهاقِ الباطلِ ودحْضِ القَلَقِ والهمِّ والغمِّ والحُزْنِ، وتحريرِ النفوسِ من استعمارِ الشُّبَهِ والشكوكِ والشِّرْكِ والحَيْرَةِ والاضطرابِ، وإنقاذهِا من مهاوي المهالكِ، فللهِ كمْ له على البَشَرِ من مِنَنٍ.

<<  <   >  >>