للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والمقصود من الحديث تهذيب المسلمين فيأنس المؤمن بالمتاعب والمصائب ويتلقاها بالرضا والصبر والاحتساب، راجياً أن تكون له عند ربه عز وجل، ولا يتمنى خالصاً من قلبه النعم ولا يحسد أهلها، ولا يسكن إلى السلامة والنعم ولا يركن إليها، بل يتلقاها بخوف وحذر وخشية أن تكون إنما هيئت له لاختلال إيمانه، فترغب نفسه إلى تصريفها في سبيل الله عز وجل، فلا يخلد إلى الراحة ولا يبخل، ولا يعجب بما أو تيه ولا يستكبر ولا يغتر، ولم يتعرض الحديث لحال الكافر لأن الحجة عليه واضحة على كل حال. وأخرج الترمذي وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص قال «سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة هون عليه ... » الحديث قال الترمذي: «حسن صحيح» (١) وقد ابتلى الله تعالى أيوب بما هو مشهور (٢) . وابتلى يعقوب بفقد ولديه وشدد أثر ذلك على قلبه فكان كما قصه الله عز وجل في كتابه: «وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَأبيضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ» يوسف:٨٤. وابتلى محمداً عليه وعليهم الصلاة والسلام بما تراه في أوائل السيرة، فكلفه أن يدعو قومه إلى ترك ما نشأوا عليه تبعاً لآبائهم من الشرك والضلال، ويصارحهم بذلك سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، ويدور عليهم في نواديهم ومجتمعاتهم وقراهم، فاستمر على ذلك نحو ثلاث عشرة سنة وهم يؤذونه أشد الأذى مع أنه كان قد عاش قبل ذلك أربعين سنة أو فوقها ولا يعرف أن يؤذي، إذ كان من قبيلة شريفة محترمة موقرة في بيت محترم موقر، ونشأ على أخلاق كريمة احترمه لأجلها الناس ووقروه، ثم كان ذلك على غاية الحياء والغيرة وعزة النفس، ومن كانت هذه حاله يشتد عليه غاية الشدة أن يؤذى ويشق عليه غاية المشقة الاقدام على ما يعرضه لأن يؤذى، ويتأكد ذلك في جنس ذاك الايذاء، هذا يسخر منه، وهذا يسبه، وهذا يبصق في وجهه - بأبي هو وأمي -، وهذا يحاول أن يضع رجليه على


(١) انظر تخريجه وطرقه في «الأحاديث الصحيحة» (١٤٣) . ن
(٢) راجع حديثه في المصدر السابق رقم (١٧) .

<<  <   >  >>