للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بنو المهذب كانوا في المعرة ذوي الفضل المُذْهَب، والمذهب المُهذَّب، وهذا أبو المُعافى كان في عصر مسلم بن قريش وهو أمير حلب فقال فيه:

أَمُسلِمُ لا سُلِّمْتَ من جاذب الرَّدى ... تَخِذْتَ وزيراً ما شددْتَ به أزرا

كسَبت، ولم تربح، بحرب ابن مُنقذٍ ... من الله والناس المذمَّة والوِزرا

فمُتْ كمداً بالجسر لستَ بجاسرٍ ... عليه وعايِنْ شيزراً أبداً شَزْرا

فقال شرف الدولة مسلم لما سمع: مَن هذا الرجل؟ فقالوا: من أهل المعرة رعيتك فقال: أَوْصوا به الوالي ليُحسن إليه، وحذِّروه أن يجني عليه. فهذا ما يعرفنا ولو لم تكن له شكاية من والينا لما قال هذا.

وله في الخِيريّ:

أُنظر إلى الخِيريّ ما بيننا ... مُقمَّصاً بالطَّلِّ قمصانا

كأنما صاغته أيدي الحَيا ... من أحمر الياقوت صُلبانا

وله يصف الوباء والإفرنج بالشام:

ولقد حلَلتُ من الشآم ببُقعةٍ ... أَعْذِرْ بساكن ربعها المسكينِ

وُبْئَتْ وجاورَها العدوُّ فأَهلُها ... شهداءُ بين الطّعن والطاعون

[حلب]

حَمَاد الخرّاط

هو حماد بن منصور البُزاعيّ وبِزاعا بين حلب ومنبج، ليس بالشام في عصرنا هذا مثله رِقّةَ شِعرٍ وسلاسةَ نظمٍ، وسهولة عبارة ولفظ، ولطافة معنى، وحلاوة مَغزى، بأُسلوبٍ سالبٍ للُّبِّ، خالبٍ للخِلْبِ، وصنعةٍ عاريةٍ من التكلُّف، نائيةٍ من التعسُّف، تترنَّح له أعطاف السامعين، وتُنبِع رِقَّته في رياض اللطف الماء المَعين،. لمّا كنت بحلب وعند تردّدي إليها في عهد نور الدين، سقى الله ثراه عِهاد الرحمة مازلت أسمع من شعره ما يزيدني طرَباً، ويفيدني عُجْباً به وعَجَبا.

ومن جملة ما علقته من شعر حماد، وهو يُحيي كلَّ جماد، قوله:

مَنْ لعليل الفؤاد مَحزونِ ... مُتيَّمٍ بالمِلاحِ مَفتون

نافسَ مجنونَ عامرٍ بهوىً ... يُعَدُّ فيه بألف مجنون

غرَّر بالنفس في هوى قمرٍ ... بائعها فيه غير مغبون

لَدْنِ مَهَزِّ الأعطاف يخطِر كالْ ... قضيب في دِقةٍ وفي لين

جوّال عقد النِّطاقِ يجذبه ... نقاً، نبا عن أديم يَبرين

يكسر بالوعد لي ممرَّضَةً ... تميتُني تارةً وتُحييني

كأنما شامَ من لواحظها ... غِرارَ صافي المَتْنَينِ مَسنون

يأمنُ قلبي على هواهُ وإنْ ... كان على القلب غيرَ مأْمون

أقولُ للنفسِ إذ تَعَزَّزُ بالْ ... جمال عِزِّي إن شئتِ أو هوني

لا صبرَ لا صبر عن محبَّة مَنْ ... أُطيعه في الهوى ويَعصيني

يُسخطُني بالجفا فأَلحَظُ مِنْ ... سُخطي رِضاه به فيُرضيني

وله:

أما أنْباكَ طيفُك إذْ أَلَمّا ... بأَني لم أَذُقْ للنوم طَعما

تؤَرِّقُني وتبعثُ لي خيالاً ... لقد أوسعتَ بالإنصاف ظُلما

ولم تسمحْ به سِنةٌ ولكنْ ... يمثّله لقلبي الشَّوْقُ وَهما

فدَتْكَ النَّفسُ كم هذا التجنّي ... وفيمَ تصُدُّ مُجتنباً ومِمّا

وحَقِّ هواك ما أذنبتُ ذنباً ... فتهجُرَني، ولا أجرمتُ جُرما

ألا يا مالكي في الحبّ عِشْقاً ... حكمتَ فمن يردّ عليك حُكما

أذَلَّني الهوى لك بعد عِزّي ... وقادَتْني لك الأشواق رغْما

فلا واللهِ ما أضمرتُ صبراً ... ولا والله ما أزمعت صُرْما

ولا راجعتُ في الهِجران رَأْيَاً ... ولا أَمْضَيْتُ في السُّلوان عَزْمَا

لِعَيْنِكَ ما أسأل العينَ دمعاً ... وجسمِك ما أذاب الجسمَ سُقْما

وله:

أفي اليوم يا بَيْنَ الحبيبِ أمِ الغدِ ... يُحَقُّ وعيدي أم يُقَرَّب مَوْعِدي

أرى عِيسَ مَن أهواهُ تُحْدَج للنَّوى ... بعينِ ضعيف الصبر واهي التجَلُّدِ

فيا لفؤادي من غرامٍ مُجَمَّعٍ ... ويا لَجفوني من مَنامٍ مُبَدَّدِ

<<  <  ج: ص:  >  >>