للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأنشدني سيدنا الصفوة البالسي معيدنا للفقيه معدان في غلام يدلّكه القيّم في حمام بيتين، كدُرّتين توأمين، أنشأهما، وما سبق إلى معناهما، وهما:

بُشْرى لقَيِّمِه إذْ باشرتْ يدُه ... جِسْماً تَوَلَّدَ بين الماءِ والنورِ

ما زالَ يُظْهِرُ لُطْفاً من صناعته ... حتى جَنى المِسْكَ من تِمْثالِ كافورِ

وأنشدني له في غلام من آل ظبيان، قوم بالشام:

يا آلَ ظبيان ما أغناكُمُ شَرفاً ... صَرْعُ الفوارس بالعَسّالِةِ الذُّبُلِ

حتى تفَرَّس من أبنائِكم رَشَأٌ ... فصار يَصْرَعُ أُسْدَ الغِيل بالمُقَلِ

وحكى لي أنه كان في أيامه شاعر بدمشق يقال له المُشتهى وكان مٌستهتراً بغلامٍ أسنانه قُلْحٌ، وما كان يسمح خاطره بوصف صفرة ثناياه، فسأل الفقيه معدان البالسي أن يعمل أبياتاً فعمل:

ومُشَهَّرٍ غَضَّتْ مَحاسِنُه ... عنه العيونَ فصارَ مُحتجِبا

خافتْ ثناياه القِصاصَ وقد ... سَفَكَتْ دمي فتصفَّرتْ رُعْبا

فكأنَّما رَصّافُ مَبْسِمِه ... حَقَرَ اللُّجَيْنَ فصاغَهُ ذَهَبَا

وقال له: قد صرّحتُ بالصفرة فيها ولكن أنظِم غيرها، فنظم تلك الليلة:

وبابليِّ اللِّحاظِ يمزُج لي ... كَأْسَيْن من طَرْفِه ومن فَمِهِ

تَظْمَا إلى ريقِه مَراشِفُنا ... ورِيُّها تحت وَرْدِ مَلْثَمِهِ

من واضحٍ يحسب الحَسودُ به ... تصَفُّراً، ضلَّ في توَهُّمِهِ

وإنما تيكَ خَمْرُ ريقتِه ... تَشِفُّ من تحت دُرِّ مَبْسِمِهِ

فقال له المشتهى: إن معك جِنّيّاً ينظم لك الشعر.

أقول هذه أبيات نوادر، كأنها جواهر، في صفرة الأسنان ومدحها لم يسبقه إلى معناه شاعر، ولم يسمح بأحسن منها خاطر، أرق من شكوى الحبيب، وأطيب من غفلة الرقيب، ولم يقع إلي من شعره أكثر مما أوردته، وإن ظفرت بشيء آخر واستحسنته أثبتّه.

أبو حسّان الضرير التدمريِّ المعريّ

هو أبو حسّان نعمة بن حسان بن نعمة بن حسان المقري، من أهل تَدْمُر، من بني جرير بن عامر. قارئ بصير من أهل النحو والأدب، قدم مُتظلِّماً من والي تدمر في صفر سنة اثنتين وسبعين إلى المخيم الملكي الناصري الصلاحي بحماة وأنشده قصيدة طويلة منها:

أَسلطانَ أرضِ الله ذا الطَّوْلِ والقَهْرِ ... حليفَ المعالي والمناقِبِ والفخرِ

ومَن عمَّ شَرْقَ الأرضِ والغربِ عَدْلُهُ ... كما عَمَّها غَيْثُ السَّحابِ من القَطْرِ

أفي عَدْلِك المبسوط والشَّرْعُ حاكمٌ ... بملكيَ أُقصى عنه بالدَّفع والزَّجرِ

وتُنْعِمُ بالخطِّ الشريف فأنثني ... إلى تَدْمُرٍ أطوي المَفاوز في القفرِ

على ثقةٍ بالدولة الناصريّة ال ... منيعِ حِماها داعياً ناشرَ الشُّكرِ

فأُمنعُ من عَوْدٍ إليك تَحُكُّماً ... ويُقْصَدُ بالإيذاءِ قلبيَ والكسرِ

ويُجعلُ إكرامي لحُرْمَةِ خطك الشريف مَذاق الهُون والمَجْرَع المُرِّ

ويُطلَبُ مني فوق ما أستطيعه ... على فاقةٍ مِن ضِيقةِ اليد والعُسْرِ

أَلَمْ تُرْعَ للشهر المعظم حُرْمةٌ ... ولا لكتاب الله أتلوه في صدري

وذاك لما قد حدَّثَتْهم ظُنونُهمْ ... بأن صلاح الدين ماضٍ إلى مصرِ

وقالوا قليلٌ جُندُه وجُموعُه ... وليس من الشرقيّ في موقع العُشْرِ

ولم يعلموا أنَّ الإله مُؤَيِّدٌ ... له ومُمِدٌّ بالمَعونةِ والنَّصرِ

وقد عَمَّتِ الآفاقَ أخبارُ نصرِه ... وجاوزَ قِنَّسْرين مُخْتَرِقَ الجِسْرِ

أبو الفضل يحيى بن نزار بن سعيد

المَنْبِجي

<<  <  ج: ص:  >  >>