للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الحصكفي]

الخطيب بميافارقين. من المتأخرين بديار بكر من حصن كيفا. وُلِدَ بطنزة وتوفي بحصن كَيفا وأقام بميافارقين. علاّمة الزمان في علمه، ومعريُّ العصر في نثره ونظمه، بل فَضَلَ المعريّ بفضله وفهمه، وبذّ الحريري برقّة طبعه، وقوة سجعه، وجودة شعره، وغزارة أدبه، وانفراده بأسلوبه في الشعر ومذهبه، له الترصيع البديع، والتجنيس النفيس، والتطبيق والتحقيق، واللفظ الجزل الرقيق، والمعنى السهل العميق، والتقسيم المستقيم، والفضل السائر المقيم، والمذهب المُذْهَب، والقول المهذّب، والفهم الشهم، والفكر البكر، والقافية الشافية، كأنها العافية والمعيشة الصافية، والروِيّ الروِيّ، والزند الوري، والخاطر الجريّ، الجامع في الوزن بين درّ الحزن، ودرّ المزن، تود الشِّعرى أنها شِعار شعره، والنثرة أنها نثار نثره، والزُّهرة أنها كوكب سمائه، والمشتري أنه مشتري ثنائه، غَنِيَت الغانيات عن قلائدهن بفرائده، وأحبّت الخصور أن توشَّح عوض مناطقها بدرّ مَنْطِقه، وحسدت عيون الغواني عيون معانيه، وغبطت أحداق الحسان أحداق محاسنه وحدائق قوافيه، ما فارق ميا فارقين، بل كان منزله محطَّ رحال المسترشدين المستفيدين، وكنت أحب لقاءَه، وأحدّث نفسي عند وصولي إلى الموصل في شرخ عمري وأنا شَعِف بالاستفادة، كَلِفٌ بمجالسة الفضلاء للاستزادة، فعاق دون لقائه بُعد الشقّة، وضعفي عن تحمل المشقّة، وكنت مع صغري كبير الهمة كثير الاهتمام، بإثبات أبيات تُنشد، وتطلُّب ضالة فاضل تُنشد، أُوثر سماع ما يُؤثر عنهم رواية، وأختار كتب ما أستحسنه حديثاً ونظماً وحكاية، فأحسن ما أثبتُّه من أشعار المُحدَثين، وأغربُ ما تلفَّقتُه من نظم المحدِّثين، مقطَّعة للحصكفي غريبة، مبتكرة معناها عجيبة، في وصف الخمر، أرق منها وأصفى، وآنَق وأضفى، وما سبقه أحد إلى هذا المعنى وهو: شَرُفت عن مخرج الحَدَث والمقطوعة هي:

وخَليعٍ بِتُّ أَعْذُلُهُ ... ويرى عَذْلِي من العَبَثِ

قلتُ: إنّ الخمرَ مَخْبَثةٌ ... قال: حاشاها من الخبَثِ

قلتُ فالأرفاثُ تَتْبَعها ... قال: طِيبُ العَيش في الرَّفَثِ

قلتُ: منها القيء قال: نعم ... شَرُفَتْ عن مَخْرَج الحَدَثِ

وسأسْلوها، فقلت: متى ... قال عند الكَونِ في الجَدَثِ

سمعتُها من غير واحد من الفضلاء والكبراء ببغداد والموصل وواسط وأصفهان، وقد صَقَلَتها الألسنة بالاستحسان، وسجّلوا لصاحبها بالفضل والبيان، وما فيهم إلاّ من أثنى عليه، ونسبها إليه.

وأنشدني بعض الأفاضل الفضلاء ببغداد ليحيى الحصكفي خمسة أبيات، كالخمسة السيّارات، مستحسناتٍ، مطبوعات، مصنوعات، وهي:

أشكو إلى الله من نارَيْن، واحدة ... في وَجْنَتيْه وأخرى منه في كَبِدي

ومِن سَقامَيْن: سُقْم قد أحلَّ دمي ... من الجُفون وسُقم حَلَّ في جَسدي

ومِن نَمُومَيْن: دمعي حين أذكُره ... يُذيعُ سِرّي، وواشٍ منه بالرَّصَد

ومن ضعيفين: صَبْرِي حين أذكره ... وودّه، ويراه الناسُ طَوْعَ يدي

مُهَفْهفٌ رقّ حتى قلتُ من عَجَبٍ ... أَخْصَرُه خِنْصَري أم جِلْدُه جَلَدي

وأنشدني الفقيه عبد الوهاب الدمشقي الحنفي ببغداد سنة خمسين وخمسمائة قال: أنشدني الخطيب يحيى بن سلامة بميّافارقين لنفسه، من قصيدة شيعية شائعة، رائقة رائعة، أولها:

حَنَّتْ فَأَذْكتْ لَوْعَتي حَنينا ... أشكو من البَيْن وتشكو البَيْنا

ومنها في مدح أهل البيت عليهم السلام:

يا خائفاً عليَّ أسبابَ الرَّدى ... أما عَرَفْتَ حِصنيَ الحَصينا

إنّي جعلتُ في الخطوبِ مَوْئِلي ... محمداً والأنْزَع البَطينا

سُبْل النجاة والمُناجاةِ ومَن ... آوى إلى الفُلك وطورِ سِينا

سِجنُكمُ سِجِّين إنْ لم تحفظوا ... عَلِيَّنا دَليلَ عِلِّيّينا

وله من قصيدة قصد فيها التجنيس الظريف، اللطيف الطريف، الذي لو كان البُسْتيّ في زمانه أقرّ بأنه عبد بيانه، ومُصَلّي ميدانه، وهي:

<<  <  ج: ص:  >  >>