للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ورد بغداد في سنة خمسين وخمسمائة، وكان قد أصعد من واسط، وهو فاضل مهندس، لكن له طبع شرس، نفيس النفس، مصيب الحدس، نزل في دار طبيب نصراني من بني تومة، ولم يبرح من ذلك المنزل ولن يريمه، وكان لعلة في ضيافة الطبيب، وهو يحل عليه إقليدس على الترتيب، وكان يضن به غاية الضنة، ويتقلد لمن يجعل له إليه طريقاً قلائد المنة، وكنت حينئذ مولعاً بإقليدس وحل أشكاله، وفهم ما يعرض من شكوكه وإشكاله، فتوصلت إلى أن بلغت إليه، وحللت مقالات عليه، فلما رأيته نافر الطبع بالكلية، أكدت مفارقته بالألية، ورأيته يدعي علوماً، ويدعو لنفسه أمراً عظيماً، من علم المجسطي وهيئات الفلك، والمنطق الذي من شم سمه هلك، وكان يقول بفارس، إنسان في هذا العلم فارس، وأنا لابد لي من قصده، واستيراء زنده، وغاب ثم عاد في السنة الثانية إلى بغداد، فلقيته في عرض الطريق مرة واحدة، ورأيت طباعه للمعرفة القديمة جاحدة، فما شئت ماشيته، وجادلته في شيء من العلوم وماريته وفارقته، وبعد ذلك ما رأيته. أنشدني لنفسه من أبيات عملها:

إلى الله أَن الدَّهرَ أَنيابُ صَرْفه ... عليَّ من الْغيظ المُبَرِّح تَصْرُفُ

وذَنْبي إِليه أَن نفسي إلى العُلا ... تَتُوق وعن طُرْقِ المَذَلَّة تَعْزُفُ

ولكنَّ هذا الدَّهرَ لا دَرَّ دَرُّهُ ... عَلَى الحرِّ جَوَّارٌ ولِلْجِبسِ مُنْصِفِ

وأنشدني لنفسه:

أَقولُ لنفسي وقد أَشْفقتْ ... لِكوْن الهمومِ إليها قواصِدْ

إِذا كُنتِ تَبغين كَسْبَ العُلى ... فلا تَحْفَلي بِلقاءِ الشدائدْ

أنشدني: كسب المعالي، فقلت: كسب العلا أصوب:

[محمد بن المبارك اليماني]

من فضلاء اليمن، ونبلاء الزمن، سافر من اليمن إلى بغداد بالبركة واليمن، وكان من الفصحاء اللسن، وأقام بها مدة وانصرف، وقد عرف مكانه من عرف. قال السمعاني في مصنفه وقد طالعته مطالعة المنتخب المنتقي، قرأت في كتاب الوشاح لأبي الحسن البيهقي أخبرني ملك النقباء محمد بن المرتضى أن محمد بن المبارك اليماني قد جرعته يد الإنفاق، كأس الإملاق، وطلق عرائس العراق، وركب أثباج الفراق، وأنشدني له:

فانْشُر مَطارفَ من هَواكَ فطالما ... أُوِلعْتَ خَوْفَ الْعاذِلين بِطَيِّها

وَدَعِ التَّأَمُّل في العَواقِب إِنه ... لا يَستبين رَشادُها مِنْ غَيِّها

[المهدي بن علي بن مهدي]

ملك اليمن في زماننا هذا، وسفك الدماء، وسبى المسلمين، وأقبل على شرب الخمر والعقار، وادعى الملك والإمامة ودعا إلى نفسه، وكان يحدث نفسه بالمسير إلى مكة فمات في الطريق سنة ستين، وتولى بعده أخوه وله شعر حسن يدل على علو همته، وما كان في نفسه من مضاء العزيمة وبعد الهمة في طلب الملك والفتنة. كثر بالعراق من أجفل من اليمن خوف ما بها من الفتن أنشدني له الشاعر الذي كان مقيماً باليمن وقدم العراق أبو محمد بن عتيق المصري ابن الرفا يهدد قوماً من اليمن:

أَبْلِغْ قُرَى تَعْكُر ولا جَرَما ... أَنّ الذي تكرهون قَدْ دَهَما

وَقُلْ لِجَنّاتِها سأُبدلُها ... سَيْلاً كأَيّام مَأَربٍ عَرِما

ظَنَّتْ خُوَيْلان أَن سَتَشْغَلَنُي ... عَماً لَمِا ظَنَّتِ اللِّئامُ عَما

هل يَنْقُصُ الْبَحْرَ كَفُّ غَارفِه ... أَو يُخْمِدُ النارَ قابِسٌ ضَرَما

تَعْساً لِخَوْلان لا أَبا لَهُمُ ... أَمْسَوْا وُجُوداً وأَصْبَحوا عَدَما

إِذْ نَفَخُوا مِنْ صَوارِمي ضَرَما ... واسْتَسْمَنوا من ظُنونِهِمْ وَرَما

وَقُلْ لسام إِليكُم عَجلاً ... فَوارِساً لم تَدَعْ لِحام حِمى

هَيْهاتَ قامتْ لكمْ عَلَى قَدَمٍ ... شَعْواءُ تَرْمي بِرأْسِها القَدَما

وشَمَّرتْ ساقَها الْحُروبُ وما ... أَلَفَّها الليلُ سائقاً حُطَما

مَمْلوءةً بالقَنا مُلَمْلَمَةً ... صَمّاءَ يَمْلو صمامها صمما

سَلْ يَوْمَ مَلْحاء قَوْمَ قَاسِمِها ... مَن كان غيري نُفوسَها اقْتَسما

<<  <  ج: ص:  >  >>