للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي إيرادها تطويلٌ، ومالي على الإطالة تعويلٌ، وحيث عرفت حق إنعامه. قضيت قروضه، وأديت فروضه، بتخليد ذكره، وتجويد شكره، والتنبيه على قدره، والتنويه بأمره، فما أجزيه بغير الدعاء، وإثباته في أحياء الأموات السعداء الأحياء، وما وجدت بعده من أصحابه إلا من سعى في محو آثاره، وقابل معروفه بجحده وإنكاره، وتلاعبوا بملكه بعد هلكه، وتواثبوا على تركته بعد تركه، وكان قصده، رحمه الله، إعزاز الإسلام وإذلال الكفر، فعملوا بالضد، وانفرد كل واحدٍ برأيه المستبد، وطرت من بينهم بخافية الخوف من أهوال أهوائهم، وحيث لم ينجع طبي في مرضهم تركتهم بأدوائهم، وأقمت بالموصل ثلاثة أشهرٍ ملازماً للبيت أنتظر فرجاً، وأرتقب لقصد العراق منهجا، وكتبت إلى الوزير جلال الدين ابن جمال الدين من جملة ما كتبت إليه:

مَوْلايَ ضَجِرْتُ من لُزوم الْبَيْتِ ... كَالْمَيْتِ وما أَوْحَشَ بَيْتَ الْمَيْتِ

لا تَلْفِتُ من حَظّي لِيتاً لَيْتنْي ... هَلْ يَمْلأُ قِنْديلي يوماً زَيْتي

حتى ورد الخبر بوصول الملك الناصر إلى دمشق ونزوله بالكسوة، وحلوله من الملك في الذروة، فكتبت إلى جلال الدين:

قدْ صَحَّ أَنَّ صلاحَ الدِّينِ في الكُسْوه ... ومِنْ سُطاه رِجالُ الرَّوْعِ كالنِسُّوَه

وَلي بِمَنْ أَمَّهُ في جِلَّقٍ أُسْوَه ... والآن يَرْفُل عاري الَحظِّ في كُسْوَه

ثم سرت وسريت، وإلى منتهى الأمل انتهيت، وأقبل الإقبال وأدبر الإدبار، وانتعش العثار، واستوحش الأغمار وكبت العدو، وكتب السمو والحمد لله على البرء من ذلك السقم، والتبرؤ من تلك الأمم، والسلامة من العلل، والاستقامة بعد الميل، والتحلي بعد العطل، والتملي بنجح الأمل، فليخسإ الحاسد وليخسر، وليحسر عن تبابه وليتحسر، وليبشر المولى بما تسنى من الولاية وتيسر.

[وقد رجعنا الآن إلى ما هو من شرط الكتاب من ذكر محاسن ذوي الآداب]

وأنا وإن اجتهدت في جمعهم، فما قضيت واجب حقهم، فإن من أهل العصر جماعةً درجوا فدرسوا، وضاع بعدهم من فضلهم ما حرسوا، فمنهم من لم أعرفه، فلا لوم علي إذا لم أصفه، ومنهم من عرفته لكن لم يقع إليَّ من كلامه شيء، ولم يصلني من وارف ظل فضله فيءٌ، ومنهم من لم أتلقف شعره إلا من عامي لم يهتد إلى الأحسن، ولم يقتد إلا بالأرك الأهون، ومنهم من سارت له أبياتٌ، ديوانه ينبو عنها، وإحسانه يستنكف منها، وأنا لقطت حيث سقطت، وانتقيت تارةً وآونةً خلطت، فمن عثرت على ديوانه أوردت أحسنه، ومن سمعت شعره من روايةٍ ذكرت ما حفظه وأتقنه، فأنا في البعض ناقد، وفي البعضٍ ناقل، وللأنس عاقد، وللشارد عاقلٌ، ولكل نصلٍ على ما طبع عليه من فرنده وأثره صاقلٌ، وقد يتفق مع قسٍ في مأدبة الأدب باقلٌ، وربما ذكرت من نظم بيتين وهو عاميٌ لجودة طبعه فيهما، وأذكر بعد المبرز في العلم أمياً فلا يشعر ذلك بتساويهما.

وقد خصصت الكتاب بذكر الفضائل والخصائص، ونزهته عما عثرت عليه من الرذائل والنقائص، وأسأل الله تصويب قصدي، وتقريب رشدي.

[شعراء بني أيوب]

ولما التزمت ذكر من له فضلٌ، ورياض الأدب به خضرٌ خضلٌ، فلا بد أن أذكر من تعرض للنظم من ملوك بني أيوب، وكشف بسنا خاطره عن أسرار المعاني الغيوب، ومن ألم منهم بتصريع شعرٍ أو ترصيع نظمٍ، فذلك عن نور بصيرةٍ وقوة فهم، فإن قولهم كطولهم غريزي، ولهم في مجالسة الفضلاء في كل علمٍ زينةٌ وزيٌ.

الملك الناصر صلاح الدين

<<  <  ج: ص:  >  >>