للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

باب في ذكر محاسن شعراء قلائد العقيان

تصنيف أبي نصر الفتح ابن خاقان القيسي الأندلسي بالأندلس والمغرب

طالعت كتاب قلائد العقيان في محاسن الأعيان بعد إيراد الذين ذكرتهم من الشعراء، فوجدته مشتملا على ذكر طائفة من أهل هذه العصر الفضلاء، شذوا عن الاثبات، وقد بذوا الغايات، فأوردتهم في هذا المجموع، ليشرقوا في آفاقه إشراق السعود في الطلوع، ولو نقلت كلام مصنف الكتاب المذكور لكان أشرح للصدور، وأوقع في نفوس الجمهور، فإنه كاللؤلؤ المنثور، والفرائد المستخرجة من البحور، والقلائد المتبلجة على النحور، لكنني أجريت جواد خاطري في جواد الخطر، وأنضيت ضامر ضميري في مضمار الفكر، المضيئة القطن بأضواء الفطر، فاستغنيت بعسلي الشافي، عن سكر غيري الكافي، ونسجت على منواله، وما عرجت على نواله، فالحكاية له واللفظ لي، وتركت له عمله ولي عملي، فمن سبق ذكره وورد شعره وألفيت له فائدة زائدة، بحسنها للألباب صائدة، وللأداب شائدة، ولأعطاف الاستحسان مائدة، ولأضياف الامتحان مائدة، رددت سمطه إلى عقده، وأوردت شرطه في عقده، ومن استفدت من هذا الكتاب اسمه ونظمه افردته في هذا الموضع، ونوهت بذكره في هذا المجمع ونبهت على نوره في هذا المطلع، فمنهم:

[المتوكل أبو محمد عمر بن المظفر]

كان قبل سنة خمسمائة أورده في الملوك بعد المعتمد وابنه الراضي، وأثنى على عزمه الماضي، ذوحزمه القاضي، ووصفه بسوق الحنود، وخفق البنود، وسبق الملوك في البأس والجود، واعتمار الآمال إلى كعبته، وائتمار الليالي والأيام لإمرتهن وحلاوة جنى جنابه، ورحب ساحته، وطلاوة لهجته، وحلاوة بهجته، وعذب فصاحته، وسياسته في نهيه وأمره، وسلاسته في نظمه ونثره، وصفاء أيامه، ومضاء أحكامه، ونمو مكارمه، وسمو دعائمه، حتى رمته مصيبات الأيام، بمصيبات السهام، وعدا عليه الدهر العادي، ووقع في الاسر حيث لا فادي، ونقل هو وابناه، إلى حيث أمرت المنون جنى مناه، قد ألحفوا أرداء الردى، وعطل منهم نادي الندي، وأنزلوا من الثريا إلى الثرى، وصاروا عبرة لمن يرى، واحل ذمام ذمائهم، وطل حرام دمائهم، وطلوا بنجيع طلاهم، وعلوا بكأس البؤس بعد رفيع علاهم، وحليت ترائبهم بالترب عاطلين من حلاهم، وخليت مطالبهم من النجح لما عراهم، من جور الزمان وعلاهم، وقتل ولداه بين يديه صبرا، وقام ليصلي فبادروه وكشفوا منه بدرا، وصار لأشلائهم بطن النسر قبرا، ولم يقبل كسرهم بعدها جبرا. وهذه عادة الأيام، غمة مصيبتها بالغم صائبة الغمام، وحمى حماتها المصون مبتذل بيد الحمام.

فمن شعره ما كتبه إلى يحيى المنصور أخيه وقد بلغه أنه ذكر بسوء في ناديه:

فما بالهم لا أنعم الله بالهم ... ينوطون بي ذاما وقد علموا فضلي

يسيئون فِيَّ القول جهلا وضلة ... وإني لأرجو أن يسوءهم فعلي

لئن كان حقا ما ادعوه فلا مشت ... إلى غاية العلياء من بعدها رجلي

ولم ألق أضيافي بوجه طلاقة ... ولم أمنح الباقين في زمن المحل

وكيف وراحي درس كل غريبة ... وورد التقى شمي وحرب العدى نقلي

ولي خلق في السخط كالشري طعمه ... وعند الرضا أحلى جنى من جنى النَّحْل

فيا أيها الساقي أخاه على النوى ... كؤوس القلا مهلا رويدك بالعل

لتطفئ نارا أضرمت في نفوسنا ... فمثلي لا يقلى ومثلك لا يقلي

وقد كنت تشكيني إذا جئت شاكيا ... فقل لي لمن أشكو صنيعك بي قل لي

فبادر إلى الاولى وإلا فإنني ... سأشكوك في الأخرى إلى الحكم العدل

قال: وصل أبو يوسف المغني والمتوكل مقلع عن الشرب، متورع بالجد عن اللعب، وقد لبس ثوب الخشوع، واستسقى واكف الدموع، وكثرة السجود والركوع، وقد أجيبت دعوته في إغاثة الغيث بتربة مجدب الثرى، وإنامة عيون الورى، بعد السهاد، لقدوم العهاد، في مهاد الكرى، وهو باق على التوبة، متوق على الحوبة، فكتب إليه:

ألمّ أبو يوسف والمطر ... فيا ليت شعري ما ينتظر

ولست بآب وأنت الشهيد ... حضور نديك فيمن حضر

ولا مطلعي وسط تلك السما ... ء بين النجوم وبين القمر

وركضي فيها جياد المدا ... م محثوثة بسياط الوتر

فبعث إليه المتوكل مركوبا وكتب معه:

<<  <  ج: ص:  >  >>