للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وصل كتاب سيدنا، أرغد الله عيش الأسرة والخدم، بنضرة أيامه، وأنجد جيش العسرة والعدم، بنضرة إنعامه، ما فرع شجرة خلافٍ شعباً، وأوقع شجار خلاف شغباً. ولما أخذ الوداد برمته، وجبذ الفؤاد بأزمته، رحل ولم يرحل مثاله، واستقل وقل أمثاله، وسكن وما سكن خاطري من القلق، وهدأ وما أهدأ الإشفاق من الحرق.

ومن أخرى إلى ابن أخيه، يحثه على الدخول بزوجته: ما دجا حبر، وداجى حبر، وأمح منهج ظلام، وانمحى نهج ظلام.

ومنها: وصار كمين الوجد مكيناً، وحنين الغرام جنوناً، ووشيك العذر مستبعداً، والقلب بين الجوانح إليك جانح، وجوارحه لملتمسك جوارح. فاسترسل قلمه في لقمه، ورقم وصف قرمه، وحاكى ما حاك في الخلد، وكنى عما نكأ في الجلد.

ووصل كتابك الشريف الموضع، اللطيف الموقع، فانتطق بشارة بشارةٍ، ونطق بإفصاح إشارة، فسروت قناعه فأقنعني بالمسرة، وقرأت عنوانه فملأ العين قرة، وأزال بلطف نقشه ونفسه، من الطرف وحشة حسه. ولما طرأ عاد الشوق طرياً، ومرى شأن الدمع فوجده مرياً. وكان كالماء الفرات، أو كلم ابن الفرات، وقمت له إجلالاً، وقلت ارتجالاً:

وفى إِليَّ وفاءا ... منك الكتاب وَفاءا

فشفّ قلبيَ، حتّى ... أشفى، وكان الشِّفاءا

يا غائباً كان يروي ... صَدَى العُيون رُواءا

لَقىً تركتَ اصطباري ... يرومُ منك لِقاءا

" وأعذبت عنك - لا عذب قليبك - لا أعذب قلبك "، فقلت: يتبع راية آرائه، ويقع في هوة أهوائه، ورأي الفطرة فطير وخيم، وحجر الشريعة حجرٌ لكل طبعٍ وخيم. فمن مري خلفها غذوا، وأمر خلفها عدوا.

وكنت حين طلبت سر هذا الأمر، وركبت ظهر هذا البحر، جعلت الإيمان أميني، والقرآن قريني، والشريعة ذريعتي، والسنة جنتي، مستمراً على أمرها، ومستمرئاً جنى مرها، حتى انفتحت لي مغالقها، واتضحت لعيني طرائقها، وأحدقت بي حدائقها.

والفقه غرس ربما حنظل شجره، ودرس ربما درس أثره. والسنة ألجأتك إلى خبط الميس، والأئمة خيرٌ من قيس.

ولنشرح لك حقيقة الخلاف، في المسألة الدائرة بين الأطراف: فإن الشافعي، شافي عي، بل أحمد، الذي أنت له أحمد: التفت عن الدنيا سالياً، ونظر نظراً عالياً، ومن سلا سلم، ومن علا علم، فقال: المقصود من هذا الوجود، الاشتغال بعبادة المعبود، والإقبال على النكاح يشغل، فالتخلي للعبادة أفضل. وذاك حين تسكن نوازع الشهوة، وتمكن منافع الخلوة. وأما النعمان فأنعم النظر، وأحكم المرر، ونظر محيطاً، وأفتى محتاطاً.

ومن تخلى لنوافل الشرع، نوى فل الجمع. ومن أذهب الفرض للنافلة، ووهب الأرض للناقلة، فقد عند، وما عبد. يسكن من الطبع ما يرى مائراً، ويمكن من الشرع ما طرأ ماطراً. ومتى أرى ظل الهوى، أضل إراءة الهدى. ويرق لمن ملك رقه، ويوفي كل ذي حق حقه، فيضرب في نوافل العبادة بسهم، ويضرب عن وجه غرض النكاح بسهم، ويكون له في كل مشروع، بالقلب شعورٌ وبالقالب شروع، ويدق كل باب، ويذوق كل لباب، اتباعاً لقول الرب الواحد: " يا بني. لا تدخلوا من بابٍ واحدٍ ". وآداب الأنبياء، دأب الأولياء، وأقوالهم، أقوى لهم.

النفوس إذا التحف صاحبها بأخلاق من أخلاق، أو فاق في أفعال على غير وفاق، أو رفض من الشرع ما رفض، وعرض بما هو له غرض، أو سرق طبعه ذميم الأخلاق، ممن ليس له خلاق، وأخلاق السوء من القرناء، أعدى من الثؤباء، وليس بين الأعداء، شيء من الإعداء؛ فشفاؤك إشفاؤها، وجلاؤك جلاؤها. فعاد الحكيم إلى النفس، واتخذ من الطب ومنهاجا وقانونا، وقال: الحكمة في سمك الماء، كهي في سمك السماء، والنفس كالشخص، في الصحة والنقص.

فاجعل العقل إماماً، وقدمه أماماً، وفوض إليه التأمير، والسكنى في التامور.

من ند عن الكمال ندم، ومن عد من الجهال عدم. فأخلد بخلدك إلى الخلد، واستعد لورود هذا العد.

وإن عدت إلى عادية عادتك، واعتددت بغادية غادتك، وإن اتسع لك المجال، وامتنع منك المحال، تخلصت زبدتك عن المخض، وخلصت إلى الحق المحض، وأطفت بملكٍ لا يبلى.

فإن أعادك إلى حبسك فلحكمته، وإن أرادك لنفع جنسك فلرحمته. وخذها طويلةً غير قصيرة، ومشورةً كالشهد مشورة، وعليك السلام، وأفضل التحية والإكرام.

وتوفي أبو المعالي الكتبي ب بغداد في سنة ثمان وستين وخمس مئة.

ابن الريفية

<<  <  ج: ص:  >  >>