للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن لله تعالى قضايا واقعة بالعدل، وعطايا جامعة للفضل، ومنحا يبسطها إذا شاء ترفيها وإنعاما، ويقبضها إذا أراد تنبيها وإلهاما، ويجعلها لقوم صلاحا وخيرا، وعلى آخرين فسادا وضيرا، وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد، وأنه بعد ما كان من امتساك الحيا، وتوقف السقيا، الذي ريع به الآمن، واستطير له الساكن، ورجفت الأكباد فزعا، وذهبت الألباب جزعا، وأذكت ذكاء حرها، ومنعت السماء درها واكتست الأرض غبرة بعد خضرة، ولبست شحوبا بعد نضرة، وكادت برود الأرض تطوى، ومدود نعمه تزوى. يسر الله تعالى رحمته، وبسط نعمته، وأتاح منته، وأزاح محنته، فبعث الرياح لواقح، وأرسل الغمام سوافح، بماء دفق، ورواء غدق، من سماء طبق، استهل جفنها فدمع، وسح مزنها وهمع، وصاب وبلها ونفع، فاستوفت الأرض ريا، واستكملت من نباتها أثاثا وريا، فزينة الأرض مشهورة، وحلة الرياض منشورة، ومنة الرب موفورة، والقلوب ناعمة بعد بؤسها، والوجوه ضاحكة بعد عبوسها، وآثار الجوع ممحوة، وسور الحمد متلوة ونحن نستزيد الواهب نعمة التوفيق، ونستهديه في قضاء الحقوق إلى سواء الطريق، ونستعيذ به من المنة أن تصير فتنة، ومن المنحة أن تعود محنة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

[الوزير أبو بكر محمد بن القصيرة]

قرأت له في بعض التعاليق، هذا البيت شاهدا له بجودة النظم بالتوفيق والتحقيق، وهو من أبيات يهنىء فيها بمولود:

لم يستهل بُكىً ولكن منكرا ... أن لم تُعدّ له الدروع لفائفا

ولم يورد القيسي مصنف قلائد العقيان شيئا من شعره، لكنه وشح كتابه بنثره، ووصفه بترجح الأقلام في بيانه، وتبجح الأيام بمكانه، وإنه كان في سماء العلى وتاجها دريا ودره، ولمشرفي الشرف وجهة الوجاهة غرارا وغرة، واشتملت عليه دولة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين اشتمال الجفن على البصر، والأكمام على الثمر، والهالة على القمر، إلى أن أضمر رمسه، وكورت شمسه. قال القيسي: فمن كلامه رقعة راجعني بها: وافتني لك - أطال اله بقاءك - أحرف كأنها الوشم في الخدود، تميس في حلل إبداعها كالغصن الاملود، وإنك لسابق هذه الحلبة لا يدرك غبارك في مضمارها، ولا يضاف سرارك إلى إبدارها، وما أنت في أهل البلاغة إلا نكتة فلكها، ومعجزة تتشرف الدول بتملكها، وما كان أخلقك بملك يدنيك، وملك يقتنيك، ولكنها الحظوظ لا تعتمد من تتجمل به وتتشرف، ولا تقف إلا على من توقف، ولو اتفقت بحسب الرتب لما ضربت إلا عليك قبابها، ولا خلعت إلا عليك أثوابها، وأما ما عرضته فلا أرى إنفاذه قواما، ولا أرضى لك أن تترك عيون آرائك نياما، ولو كففت من هذا الخلق، وانصرفت عن تلك الطرق، لكان أليق بك، وأذهب مع حسن مذهبك، فقديما أوردت الأنفة أهلها موارد لم يحمدوا صدرها والموفق من أبعدها وهجرها، وسأستدرك الأمر قبل فواته، وأرهف لك مفلول شباته، فتوقف قليلا، ولا تنفذ فيه دبيرا ولا قبيلا، حتى ألقاك هذه العشية، وأعلمك بما تنبني عليه القضية.

وكتب عن أمير المسلمين إلى طائفة متعدية: يا أمة لا تعقل رشدها، ولا تجري إلى ما تقتضيه نعم الله عندها، ولا تقلع عن أذي تفشيه قربا وبعدا جهدها، فإنكم لا ترعون لجار ولا غيره حرمة، ولا تراقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، قد أعماكم عن مصالحكم الأشر، وأضلكم ضلالا بعيدا البطر، ونبذتم المعروف وراء ظهوركم، وأتيتم ما ينكر مقتديا في ذلك صغيركم بكبيركم، وخاملكم بمشهوركم، ليس فيكم زاجر، ولا منكم إلا غوي فاجر، وما ترى إلا الله عز وجل قد شاء مسخكم وأراد نسخكم وفسخكم، فسلط عليكم الشيطان الرجيم يغركم ويغريكم، ويزين لكم قبائح معاصيكم، وكأنكم به قد نكص على عقبيه عنكم، وقال إني بريء منكم، وترككم في صفقة خاسرة، لا تستقيلونها إن لم تتوبوا في دنيا ولا آخرة، وحسبنا هذا إعذارا لكم، وإنذارا قبلكم، فتوبوا وأنيبوا وأقلعوا وانزعوا، واقضوا من أنفسكم كل من وترتموه، وأنصفوا جميع من ظلمتموه وغششتموه ولا تستطيلوا على أحد بعد، ولا يكن إلى أذاه صدر ولا ورد، إلا عاجلكم من عقوبتكم ما يجعلكم مثلا سائرا، وحديثا غابرا، فاتقوا الله في أنفسكم وأهليكم، وإياكم والاعتزاز فإنه يورطكم فيما يرديكم ويسوقكم، إلى ما يشمت به أعاديكم، وكفى بهذا تبصرة وتذكرة، ليست لكم بعدها حجة ولا معذرة ...

<<  <  ج: ص:  >  >>