للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكتب عن أمير المسلمين إلى صاحب قلعة حماد: وصل كتابك، الذي أنفذته من وادي مني صادرا عن الوجهة التي استظهرت عليها بأضدادك، وأجحفت فيها بطارفك وتلادك، وأخفقت فيها من مطلبك ومرادك، فوقفنا على معانيه، وعرفنا المصرح به والمشار إليه فيه، ووجدناك تتجنى وتثرب على من لم يستوجب التثريب وتجعل سيئك حسنا، ونكرك معروفا وخلافك صوابا بينا، وتقضي لنفسك بفلح الخصام، وتوافيها الحجة البالغة في جميع الأحكام، ولم تتأول أن وراء كل حجة أدليت بها ما يدحضها، وإزاء كل دعوى أبرمتها ما ينقضها، وتلقاء كل شكوى صححتها ما يمرضها، ولولا استنكاف الجدال، واجتناب تردد القيل والقال، لفضضنا فصول كتابك أولا فأولا، وتقريناها تفاصيل وجملا، وأضفنا إلى كل فصل ما يبطله، ويخجل من ينتحله، حتى لا يدفع حجته دافع، ولا ينبو عن قبول أدلته راء ولا سامع.

ومنها: وأنت تحتفل وتحتشد، وتقوم وتقعد، وتبرق غيظا وترعد، وتستدعي ذؤبان العرب، وصعاليكهم من مبتعد ومقترب؛ فتعطيهم ما في خزائنك جزافا، وتنفق عليهم ما كنزه أوائلك إسرافا، وتمنح أهل العشرات مئين وأهل المئين آلافا، كل ذلك لتعتضد بهم، وتعتمد على تعصبهم، وتعتقد أنهم جنتك من المحاذير، وحماتك من المقادير، وتذهل عما في الغيب من أحكام العزيز القدير ...

وكتب إلى أهل مكناسة عنه: أما بعد، - أصلح الله من أعمالكم ما اختل، وأصح من وجوه صلاحكم ما اعتل -، فقد بلغنا ما أنتم بسبيله من التقاطع والتدابر، وما ركبتم رؤوسكم فيه من التنازع والتهاتر، قد استوى في ذلك عالمكم وجاهلكم، وصار شرعا سواء فيه نبيهكم وخاملكم، لا تأتمرون رشدا، ولا تطيعون مرشدا، ولا تقيمون سددا ولا تنحون مقصدا، ولا تفلحون إن لم ترعووا عن غوايتكم أبدا، فلا يسوغ لنا أن نترككم فوضى وندعكم سدى، ولابد لنا من أخذ قناتكم بثقاف إما أن تستقيم أو تتشظى قصدا، فتوبوا من ذنب التباغض بينكم والتباين، واعصوا شياطين التحاقد والتشاحن، وكونوا على الخير أعوانا، وفي ذات الله إخوانا، ولا تجعلوا للغواية عليكم يدا ولا سلطانا. واعلموا أن من نزغ بينكم بشر، أو نفث في فتنة بضر، وقام عندنا عليه الدليل، واتجه إليه السبيل، أخرجناه عنكم، وأبعدناه منكم. فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين، ولا تتولوا عن الموعظة وأنتم معرضون، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون.

[الوزير أبو المطرف ابن الدباغ الكاتب]

لم يورد له نظما، ووصفه بالاشتهار بالبلاغة، والاقتصار على حسن البلاغ في كل إراغة، وكلف المعتمد به، فاعتماده عليه لحسن مذهبه، فانبري لشأنه الشاني، فأصابت كماله عين الراني، فأحله اضطراب الحالة حلة الاضطرار، وأفضى به الاغترار إلى الاعترار، وحصل دون درك الإيثار، في شرك العثار، فانتقل إلى المتوكل متوكلا، فرفع ووسع له منزلة ومنزلا، وكر إلى سرقسطة بلده ومحله، ليكون مع ولده وأهله، فبات ليلة في بعض حدائقها، فرمقته النوائب بأحداق بوائقها، فطرقه عدو له وهنا، وكسا قواه بفري أوداجه وهنا، وطعنه بمداه ورداه رداه، وسقاه من الموت الأحمر كأس حمامه، وتركه لا يستيقظ من منامه.

ومن كتبه، وكان كثير الشكوى من الدهر ونوبه: كتابي، وأنا كما تدريه، غرض للأيام ترميه، ولكن غير شاك لآلامها، لأن قلبي في أغشية من سهامها، فالنصل على مثله يقع، والتألم بهذه الحالة قد ارتفع، كذلك التقريع إذا تتابع هان، والخطب إذا أفرط في الشدة لان، والحوادث تنعكس إلى الأضداد، إذا تناهت في الاشتداد، وتزايدت على الآماد.

وكتب في مثل ذلك: كتابي، وعندي من الدهر ما يهز أيسره الرواسي، ويفتت الحجر القاسي، ومن أجلها قلب محاسني مساويا، وانقلاب أوليائي أعاديا، وقصدني بالبغضة من جهة المقة، واعتمدني بالخيانة من جانب الثقة، فقس هذا على سواه، وعارض به ما عداه، ولا تعجب إلا لثبوتي لما لا يثبت عليه الحلق السرد، وبقائي على مالا يبقى عليه الحجر الصلد، ولا أطول عليك فقد غير علي حتى شرابي، وأوحشتني ثيابي، فها أنا أتهم عياني، وأستريب من بناني، وأجني الإساءة من غرس إحساني، وقاتل الله الحطيئة في قوله، فلشد ما غرر بقوله:

من يزرع الخير يحصد ما يسر به ... وزارع الشر منكوس على الراس

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس

<<  <  ج: ص:  >  >>