للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلم أَشك فِي التّلف، وَأَن الْأسد سيمد يَده، فيجذبني من على الْحمار، فغمضت عَيْني لِئَلَّا أرى كَيفَ أحصل فِي مخالبه، وَأَقْبَلت أَتَشهد، وأقرأ، وَأَنا مَعَ ذَلِك أجد عَقْلِي ثَابتا، ومتصورًا لهيأة الْأسد، وَلم يفدني التغميض شَيْئا.

ثمَّ ذكرت فِي الْحَال حِكَايَة كنت أسمعها، أَن الْأسد لَا يفترس الْإِنْسَان وَهُوَ مواجه لَهُ، فاستدرت وَفتحت عَيْني فِي عَيْنَيْهِ، وَأَقْبَلت أَتَشهد خفِيا، والأسد فاتح فَاه، وَأَنا أتأمل أَسْنَانه، وَتصل إِلَى أنفي من فَمه رَوَائِح مُنْتِنَة.

فَإِنِّي لكذلك إِذْ لَحِقَنِي الصَّبِي الْمَمْلُوك على البغلة، وَمَعَهُ رجل رَاكب دَابَّة، ووراءهما قوم مشَاة.

فحين رأى الْمَمْلُوك تِلْكَ الْحَالة، جزع جزعًا شَدِيدا، وَصَاح بِأَعْلَى صَوته: يَا معاشر الْمُسلمين أدركونا، فقد افترس الْأسد مولَايَ الْعلوِي.

فحين سمع الْأسد الصياح من وَرَائه انزعج، والتفت، فَرَأى الصَّبِي قَرِيبا إِلَيْهِ، فتناوله من أَعلَى السرج، وعار الْبَغْل وَحصل الصَّبِي فِي فَم الْأسد، كالفأرة فِي فَم السنور، وَأَنا كالميت إِلَّا أَنِّي أحصل مَا أرى من ذَلِك.

وَأَقْبل الْأسد يحمل على رَاكب الدَّابَّة، والمشاة، وَالصَّبِيّ فِي فَمه، فَهَرَبُوا مِنْهُ، وَدخل الأجمة.

فَقلت فِي نَفسِي: قد فداني الله عز وَجل بمملوكي، وخلص نَفسِي بِيَسِير من مَالِي، فَمَا وُقُوفِي؟ فرميت بنفسي عَن الْحمار، وفررت أعدو على المسناة، فتلقاني قوم قد جَاءُوا من الْكُوفَة، وَرَأَوا حيرتي، وفزعي، فسألوني عَن أَمْرِي، فَأَخْبَرتهمْ.

فتقدموا يطْلبُونَ الْأسد، وقويت نَفسِي، فزدت فِي الْعَدو، إِلَى أَن خرجت من الأجمة، ولحقني الرّفْقَة الَّتِي كنت فِيهَا، وَقد عقلوا البغلة الَّتِي كَانَت تَحت مملوكي، وَسَاقُوا الْحمار، فركبته، وَدخلت الْكُوفَة.

<<  <  ج: ص:  >  >>