للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بَابُ الرَّدِّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَسْبِي اللَّهُ وَكَفَى وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَهْلِ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، وَالْعِزَّةِ وَالْبَقَاءِ، وَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، أَحْمَدُهُ عَلَى تَوَاتُرِ نِعَمِهِ، وَقَدِيمِ إِحْسَانِهِ وَقَسْمِهِ، حَمْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ مَوْلَاهُ الْكَرِيمَ يُحِبُّ الْحَمْدَ، فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَصَلَوَاتُهُ عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، السِّرَاجِ الْمُنِيرِ، سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، ذَلِكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ الْمُنْتَخَبِينَ، وَعَلَى أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَنْ مَذْهَبِنَا فِي الْقَدَرِ؟ فَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نُخْبِرَهُ بِمَذْهَبِنَا أَنَّا نَنْصَحُ لِلسَّائِلِ، وَنُعَلِّمُهُ أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ بِالْمُسْلِمِينَ التَّنْقِيرُ وَالْبَحْثُ عَنِ الْقَدَرِ؛ لِأَنَّ الْقَدَرَ سِرٌّ مِنْ سِرِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلِ الْإِيمَانُ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَاجِبٌ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، ثُمَّ لَا يَأْمَنُ الْعَبْدُ أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الْقَدَرِ فَيُكَذِّبُ بِمَقَادِيرِ اللَّهِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْعِبَادِ، فَيَضِلُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا هَلَكَتْ أُمَّةٌ قَطُّ إِلَّا بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا أَشْرَكَتْ أُمَّةٌ حَتَّى يَكُونَ بَدْوِ أَمْرِهَا وَشِرْكُهَا: التَّكْذِيبُ بِالْقَدَرِ " قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَوْلَا أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا بَلَغَهُمْ عَنْ قَوْمٍ ضُلَّالٍ شَرَدُوا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَكَذَّبُوا بِالْقَدَرِ، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ، وَسَبُّوهُمْ وَكَفَّرُوهُمْ، وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ سَبُّوا مَنْ تَكَلَّمَ بِالْقَدَرِ وَكَذَّبَ بِهِ وَلَعَنُوهُمْ وَنَهَوْا عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ مُجَالَسَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَعَنْ مُنَاظَرَتِهِمْ وَبَيَّنُوا لِلْمُسْلِمِينَ قَبِيحَ مَذَاهِبِهِمْ فَلَوْلَا أَنَّ هَؤُلَاءِ رَدُّوا عَلَى الْقَدَرِيَّةِ لَمْ يَسَعْ مَنْ بَعْدَهُمُ الْكَلَامُ عَلَى الْقَدَرِ، بَلِ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ: خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَاجِبٌ قَضَاءٌ وَقَدَرٌ، وَمَا قُدِّرَ يَكُنْ، وَمَا لَمْ يَقَدَّرْ لَمْ يَكُنْ، فَإِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، عَلِمَ أَنَّهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ لَهُ فَيَشْكُرُهُ عَلَى ذَاكَ وَإِنْ عَمِلَ بِمَعْصِيَتِهِ نَدِمَ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلِمَ أَنَّهَا بِمَقْدُورٍ جَرَى عَلَيْهِ، فَذَمَّ نَفْسَهُ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، هَذَا مَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حُجَّةٌ، بَلْ لِلَّهِ الْحُجَّةُ عَلَى خَلْقِهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: ١٤٩] ثُمَّ اعْلَمُوا رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ أَنَّ مَذْهَبَنَا فِي الْقَدَرِ أَنَّ الْقَدَرَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ النَّارَ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَهْلًا، وَأُقْسِمُ بِعِزَّتِهِ أَنَّهُ يَمْلَاءُ جَهَنَّمَ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاسْتَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلِّ ذُرِّيَّةٍ هُوَ خَالِقُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقًا فِي السَّعِيرِ وَخَلَقَ إِبْلِيسَ، وَأَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ لِلْمَقْدُورِ، الَّذِي قَدْ جَرَى عَلَيْهِ مِنَ الشِّقْوَةِ الَّتِي قَدْ سَبَقَتْ فِي الْعِلْمِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا مُعَارَضَ لِلَّهِ الْكَرِيمِ فِي حُكْمِهِ، يَفْعَلُ فِي خَلْقِهِ مَا يُرِيدُ عَدْلًا مِنْ رَبَّنَا قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ، وَخَلَقَ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، لِلْأَرْضِ خَلَقَهُمَا، وَأَسْكَنَهُمَا الْجَنَّةَ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَأْكُلَا مِنْهَا رَغَدًا مَا شَاءَا، وَنَهَاهُمَا عَنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ أَنْ لَا يَقْرَبَاهَا، وَقَدْ جَرَى مَقْدُورُهُ أَنَّهُمَا سَيَعْصِيَانِهِ بِأَكْلِهِمَا مِنَ الشَّجَرَةِ، فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الظَّاهِرِ يَنْهَاهُمَا، وَفِي الْبَاطِنِ مِنْ عِلْمِهِ: قَدْ قَدَّرَ عَلَيْهِمَا أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ مِنْهَا: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: ٢٣] لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بُدٌّ مِنْ أَكْلِهِمَا، سَبَبًا لِلْمَعَصَيَةِ، وَسَبَبًا لِخُرُوجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ، إِذْ كَانَا لِلْأَرْضِ خُلِقَا، وَأَنَّهُ سَيَغْفِرُ لَهُمَا بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ، كُلُّ ذَلِكَ سَابِقٌ فِي عِلْمِهِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ يَحْدُثُ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ، إِلَّا وَقَدْ جَرَى مَقْدُورُهُ بِهِ، وَأَحَاطَ بِهِ عِلْمًا قَبْلَ كَوْنِهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ خَلَقَ الْخَلْقَ كَمَا شَاءَ لَمَّا شَاءَ، فَجَعَلَهُمْ شَقِيًّا وَسَعِيدًا قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُمْ إِلَى الدُّنْيَا، وَهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَكَتَبَ آجَالَهُمْ، وَكَتَبَ أَرْزَاقَهُمْ، وَكَتَبَ أَعْمَالَهُمْ، ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ إِلَى الدُّنْيَا، وَكُلُّ إِنْسَانٍ يَسْعَى فِيمَا كَتَبَ لَهُ وَعَلَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ وَحْيَهُ، وَأَمَرَهُمْ بِالْبَلَاغِ لِخَلْقِهِ، فَبَلَّغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ، وَنَصَحُوا قَوْمَهُمْ، فَمَنْ جَرَى فِي مَقْدُورِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُؤْمِنَ آمَنَ، وَمَنْ جَرَى فِي مَقْدُورِهِ أَنْ يَكْفُرَ كَفَرَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هُو الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن: ٢] أَحَبَّ مَنْ أَرَادَ مِنْ عِبَادِهِ، فَشَرَحَ صَدْرَهُ لِلْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَمَقَتَ آخَرِينَ، فَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا، يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: ٢٣] الْخَلْقُ كُلُّهُمْ لَهُ يَفْعَلُ فِي خَلْقِهِ مَا يُرِيدُ، غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ، جَلَّ ذِكْرُهُ أَنْ يُنْسَبَ رَبُّنَا إِلَى الظُّلْمِ مَنْ يَأْخُذُ مَا لَيْسَ لَهُ بِمِلْكٍ، وَأَمَّا رَبُّنَا تَعَالَى فَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَلَهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، جَلَّ ذِكْرُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، أَحَبَّ الطَّاعَةَ مِنْ عِبَادِهِ وَأَمَرَ بِهَا، فَجَرَتْ مِمَّنْ أَطَاعَهُ بِتَوْفِيقِهِ لَهُمْ، وَنَهَى عَنِ الْمَعَاصِي، وَأَرَادَ كَوْنَهَا مِنْ غَيْرِ مَحَبَّةٍ مِنْهُ لَهَا، وَلَا لِلْأَمْرِ بِهَا، تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَنْ يَأْمُرَ بِالْفَحْشَاءِ، أَوْ يُحِبَّهَا وَجَلَّ رَبُّنَا وَعَزَّ مِنْ أَنْ يَجْرِي فِي مُلْكِهِ مَا لَمْ يُرِدْ أَنْ يَجْرِيَ، أَوْ شَيْءٌ لَمْ يَحُطْ بِهِ عِلْمُهُ قَبْلَ كَوْنِهِ، قَدْ عَلِمَ مَا الْخَلْقُ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَبَعْدَ أَنْ خَلَقَهُمُ، قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا قَضَاءً وَقَدَرًا قَدْ جَرَى الْقَلَمُ بِأَمْرِهِ تَعَالَى فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بِمَا يَكُونُ، مِنْ بِرٍّ أَوْ فُجُورٍ، يُثْنِي عَلَى مَنْ عَمِلَ بِطَاعَتِهِ مِنْ عَبِيدِهِ، وَيُضِيفُ الْعَمَلَ إِلَى الْعِبَادِ، وَيَعِدْهُمْ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ الْعَظِيمَ، وَلَوْلَا تَوْفِيقُهُ لَهُمْ مَا عَمِلُوا بِمَا اسْتَوْجَبُوا بِهِ مِنْهُ الْجَزَاءُ، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: ٢١] , وَكَذَا ذَمَّ قَوْمًا عَمِلُوا بِمَعْصِيَتِهِ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا وَأَضَافَ الْعَمَلَ إِلَيْهِمْ بِمَا عَمِلُوا، وَذَلِكَ بِمَقْدُورٍ جَرَى عَلَيْهِمْ، يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا مَذْهَبُنَا فِي الْقَدَرِ الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ السَّائِلُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا الْحُجَّةُ فِيمَا قُلْتَ؟ قِيلَ لَهُ: كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسُنَّةِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَقَوْلُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ قَالَ: فَاذْكُرْ مِنْ ذَلِكَ مَا نَزْدَادُ بِهِ عِلْمًا وَيَقِينًا، قِيلَ لَهُ: نَعَمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِكُلِّ رَشَادٍ، وَالْمُعِينُ عَلَيْهِ بِمَنِّهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>