للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لكنا بلغنا بها من الرقي مبلغًا عظيمًا) (١) .

وقد نقد ابن تيمية بشدة المنادين بتطبيق المنطق الأرسططاليسي والمعجبين به في العالم الإسلامي؛ باعتباره القانون الذي يعصم الذهن من الوقوع في الخطأ، وأظهر بكتاباته ومناقشاته العميقة لحدود هذا المنطق وطرق استدلالاته، أظهر أنه لا يجوز لعاقل أن يظن أن الميزان العقلي الذي أنزله الله هو منطق اليونان للأسباب الآتية:

أولاً: إن الله - تعالى - أنزل الموازين مع كتبه قبل أن يخلق اليونان، في عهد نوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام وغيرهم، وهذا المنطق اليوناني وضعه أرسطو قبل المسيح بثلاثمائة سنة فقط، فكيف كانت الأمم المتقدمة تزن به؟ ويثبت بذلك أن الله تعالى خاطب الأمم بالميزان العقلي، فإن الوحي المنزل قائم على أدلة العقول (٢) .

ولما كان القرآن الكريم هو الكتاب الإلهي الأخير للبشرية، قد عظم من شأن العقل، وجعله أساساً للتكليف، فإن مسلوب العقل أو المجنون غير مكلّف، وقد رُفع عنه العقاب، ولا يصح إيمانه ولا صلاته ولا صيامه ولا شيء من أعماله، فإن الأعمال كلها لا تقبل إلا مع العقل؛ فمن لا عقل له لا يصح شيء من عباداته - لا فرائضه ولا نوافله - ومن لا فريضة له ولا نافلة ليس من أولياء الله تعالى.

ولهذا قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) [سورة طه: آية: ١٢٨] أي: العقول وقال تعالى: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) [سورة الفجر: آية: ٥] أي: لذي عقل؟ وقال تعالى: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [سورة البقرة: آية: ١٩٧] وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف، الآية: ٢] .

ويتضح من آيات قرآنية أخرى أن الله تعالى قد مدح وأثنى على من كان له عقل فأما من لا يعقل فإن الله لم يحمده ولم يثن عليه ولم يذكره بخير قط، بل قال تعالى عن أهل النار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) وقال (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [الأنفال: ٢٢]


(١) د. علي سامي النشار: مناهج البحث لدى مفكري الإسلام. واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي ص ٢٨٩، ٣٠٣ دار المعارف ١٩٦٥ م.
(٢) السيوطي: صون المنطق ج ٢ ص ١٥٥٧.

<<  <   >  >>