للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) [البقرة: ٢١٤] .

وإذا سأل سائل: إذا كان هذا مما يعرف بالعقل، فكيف جعله الله تعالى مما أرسلت به الرسل؟ وهذا السؤال في غير موضعه لأن صاحبه يفترض أن العقل مباين للشرع، وأن ما يعلم بالعقل قسيمًا - أو مقابلا - للعلوم النبوية وبعبارة أخرى يجعل الأحكام العقلية منفصلة عن العلوم النبوية، فهذه نقلية سمعية وتلك عقلية برهانية.

والإجابة على هذا السؤال سهلة يسيرة إذا قرأنا القرآن، حيث يتبين منه أن الرسل ضربت للناس الأمثال العقلية التي يعرفون بها التماثل والاختلاف، فإن الرسل خاطبت الناس بما يعرفونه، ودلت على ما يفهمونه بفطرتهم التي خلقهم الله بها، فليست العلوم النبوية إذن مقصورة على مجرد الخبر، كما يظنه أهل الكلام، بل الرسل - صلوات الله عليهم - بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الناس علمًا وعملاً، وضربت الأمثال، وذلك يظهر دور الرسل الذين جاءوا بتكميل الفطرة وإصلاحها، فكملت الفطرة بما نبهتها عليه وأرشدتها مما كانت الفطرة معرضة عنه لأسباب الغفلة، وكذلك تصلح الفطرة وتعيدها إلى طبيعتها إذا قيست بالآراء والأهواء الفاسدة، ويكون دور الرسل أيضًا إزالة ذلك الفساد وتذكير البشر ما كانت فطرتهم معرضة عنه (١) .

وكانت طريقة السلف الصالح تتلخص في الاستدلال بالأدلة العقلية التي يحتاج إليها في العلم بما لا يقدر عليه المتكلمون بإتيانه، بل إن غاية ما يذكرونه قد جاء القرآن بخلاصته على أحسن وجه، وذلك كالأمثال المضروبة التي يذكرها الله تعالى في كتابه التي وصفها بقوله: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) [سورة الروم: آية ٥٨] .

ولا يمل ابن تيمية من تكرار وإعادة القول: بأن الأمثال المضروبة في القرآن الكريم هي الأقيسة العقلية، ويضيف إلى ذلك أنه يدخل فيها ما يسميه المناطقة براهين، وهو القياس المؤلف من المقدمات اليقينية، بل إن لفظ البرهان في اللغة أعم


(١) ابن تيمية - الرد على المنطقيين ص ٣٨٢.

<<  <   >  >>