للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الحال التي يجب أن يكون الواعظ عليها]

حق الواعظ أن يتعظ ثم يعظ، ويُبصر ثم يُبَصِّر، ويهتدي ثم يهدي، ولا يكون كدفتر يفيد ولا يستفيد، وكمسن يشحذ ولا يقطع، بل يكون كالشمس التي تفيد القمر الضوء ولها أفضل مما تفيده، وكالنار التي تحمي الحديد ولها من الحمى أكثر مما تفيد، ويجب أن لا يجرح مقاله بفعاله، ولا يكذب لسانه بحاله، فيكون ممن وصفهم اللَّه تعالى بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (٢٠٤) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٥)

ونحو ما قال علي كرم اللَّه وجهه: " قصم ظهري رجلان: جاهل متنسك وعالم متهتك، فالجاهل يغر الناس بتنسكه، والعالم ينفرهم بتهتكه "، والواعظ ما لم يكن مع مقاله فعاله لا ينتفع به وذلك أن عمله يدرك

بالبصر، وعلمه مدرك بالبصيرة، وأكثر الناس أصحاب الأبصار دون البصائر، فيجب أن تكون عنايته بإظهار عمله الذي يدركه جماعتهم أكثر من عنايته بالعلم الذي لا يدركه إلا البصير منهم.

ومنزلة الواعظ من الموعوظ كمنزلة المداوي من المداوى، فكما أن الطيب إذا قال للناس: لا تأكلوا هذا فإنه سم قاتل، ثم رأوه آكلًا له عد سخرية وهزأ، كذلك الواعظ إذا أمر بما لا يعمله، وبهذا النظر قيل: يا طبيب طب نفسك، بل قد قال تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٣)

إلى غير ذلك من الآيات، وأيضًا فالواعظ من الموعوظ يجري مجرى الطابع من المطبوع فكما أنه محال أن ينطبع الطين بما ليس منتقشًا في الطابع كذلك محال أن يحصل في نفس الموعوظ ما ليس بموجود في نفس الواعظ.

فإذا لم يكن الواعظ إلا ذا قول مجرد من الفعل لم يتلق عنه الموعوظ إلا القول دون الفعل، وأيضًا فإن الواعظ يجري من الناس مجرى الظل من ذي الظل، فكما أنه محال أن يعوج ذو الظل والظل مستقيم، كذلك من المحال أن يعوج الواعظ والموعوظ مستقيم، وأيضًا فكل شيء له حالة يختص بها فإنه يجري غيره بإرادة منه أو غير إرادة، كالماء الذي يحيل ما يتلقاه من العناصر إلى

<<  <   >  >>