للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإن كان غمه لجهله بماله ومآله عند ربه، فمداواته بالعلم والمعرفة الحقيقية التي تريه حال ما للإنسان بعد الموت كما قال حارثة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " كأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوون فيها ".

وإن كان غمه خوفًا لما قدم من عصيانه؛ فدواؤه المبادرة بالتوبة، ويكفيه إن كان ذا بصيرة ما جعل اللَّه له إليه سبيلًا من تلافي ما فرط منه ووعد به التائبين إليه.

[أحوال الناس في محبة الموت والاحتيال لقلة المبالاة به]

الناس في ذلك على ثلاثة أضرب:

فالأول: حكيم يعلم أن الحياة تسترقه والموت يعتقه، وأن الإنسان في هذا العالم وإن طال فيه لبثه فهو كخطفة برق لمعت في أكناف السماء ثم خفيت، وأنه في دنياه

كمبعوث إلى ثغر يحرسه وبلد يسوسه فيراعي من ذلك ما استرعى ويفرح ويسر إذا استدعى، ولا ينكأه خروجه منها إلَّا بقدر ما يفوته من خدمة ربه والازدياد من التقرب إليه، والإشفاق مما يقال له كما قال بعض الصالحين وقد رؤي منه جزع عند الموت فقيل

له في ذلك، فقال: إنما جزعي لأني أسلك طريقًا لم أعهده، وأقدم على رب لم أره ولا أدري ما أقول ولا ما يقال لي.

والثاني: رجل أنس بهذا العالم فألفه، وإن كرهه فسبيله سبيل من ألف بيتا مظلمًا قذرًا ولم ير غيره يكره الخروج منه وإن كان يكره الكون فيه كما قال الشاعر:

دخلنا كارهين لها فلما ... ألفناها خرجنا مكرهينا

وما حب البلاد بنا ولكن ... أمر العيش فرقة من هوينا

وحق ما قيل: لو رضي الناس بأرزاقهم رضاهم بأوطانهم لما شكا أحد فقره، فهذا متى خرج عن دنياه واطلع على ما أعد الله للصالحين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر سر بخلاصه كما حكى الله - عز وجل - عمن استقر بهم القرار في جنات النعيم حيث قالوا: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) .

<<  <   >  >>