للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يومٍ، وهو خمس مئة عام» ، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «اطّلعت على الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطّلعت على النار، فرأيتُ أكثر أهلها النساء» ، فإن ذلك محمولٌ على الغالب من أحوال الأغنياء والفقراء، إذ لا يتصفُ من الأغنياء بما ذكرناه من أن يعيش عيش الفقراء ويتقرب إلى الله -تعالى- بما فَضَلَ عن عيشه، مُقدّماً لأفضلِ البذلِ فأفضلِهِ إلا الشذوذُ النادرونَ الذين لا يكادون يوجدون، والصابرون على الفقرِ قليلٌ ما هم، والراضونَ أقلّ من ذلك القليل.
وتحقيق هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قبل الغنى قائماً بوظائف الفقر، فلما أغناه الله -تعالى- قام بوظائف الفقراء والأغنياء، فكان غنياً فقيراً، صبوراً شكوراً، راضياً بعيش الفقراء، جواداً بأفضل جود الأغنياء.
ومن أعمال القلوب: احتقار ما حقّره الله من الدنيا وأسبابها، وتعظيم ما عظّمه الله من الفقر والذل والمسكنة والخضوع والخشوع والغربة وعدم الجاهِ والمال؛ لأن الغنى بالمعارف والأحوال أفضل وألذُّ من الغِنى بالجاه والأموال.
والذلُّ لله -عز وجل- عِزٌّ، والفقرُ له غنى، والغُربة لأجله استيطان؛ لأن العبد إذا كان عند سيده فهو في أفضل الأوطان، وإن أعرض عنه ونأى بجانبه، فأعظِم به من خسران» ، ثم قال تحت عنوان (فائدة) وفيها تفصيل لما أجمله المصنف. قال -رحمه الله تعالى-:
«لا يفضل الغنى من جهة كونه غِنىً، ولا الفقر من جهة كونه فقراً، وإنما الفضل والخلاف فيما يترتبُ عليهما من الآثار.
وقد جمعَ - صلى الله عليه وسلم - بين آثارهما في آخر عمره، فكان متصفاً بأكمل آثار الفقر وأكمل آثار الغنى، فكان جامعاً بين آثارهما التي وقع فيها الخلاف، فقام بمصلحتي السببين اللذين ليسا بمقصودين ولا قُربة فيهما، بل هما وسيلتان إلى مصالح الغنى والفقر» .
قال أبو عبيدة: الأحاديث التي ساقها العز جميعها تقدّمت، إلا حديث: «يا ابن آدم! إنك إن تبذل الفضل خيرٌ لك، وإن تمسكه شرٌّ لك» . والحديث أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب بيان أن اليدَ العليا خير من اليد السُّفلى) (١٠٣٦) عن أبي أمامة، وله تتمة هي: «ولا تُلامُ على كفافٍ، وابدأ بمن تعول، واليدُ العُليا خيرٌ من اليد السُّفلى» .
وفي لفظ: «إن تُعط الفضلَ فهو خير لك، وإن تُمسكه فهو شرٌّ لك، وابدأ بمن تعول، ولا يلومُ الله على الكفاف» . أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة (٢/٣٦٢) وإسناده حسن.
وانظر: «السلسلة الصحيحة» (٢٤٧٣) .
وفي هذا الحديث فضل الكفاف، وهو قدر حاجة الإنسان، دون زيادة التي تسبب -في الغالب- الطُّغيان، وسيأتي لاحقاً إن الغنى مغلوب بهذه الخصلة الي لا تكاد تنفك عن الإنسان، ما لم يصل إلى أعلى المراتب وأكملها من التيّقظ والمراقبة وهضم النفس، والحرص على التواضع. =

<<  <   >  >>