للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= عبداً، فلزمه أن يفي لله بما اختاره، والمال إنما يرغب فيه مع مقارنة الدين يستعان به على الآخرة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلم يحتج إلى المال من هذه الوجوه، وكان قد ضمن الله له رزقه بقوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: ٣٢] .
وانظر: «شرح ابن بطال على صحيح البخاري» (١٠/١٧٤) ، وقد خرَّجت تخيير الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في تعليقي على «الموافقات» للشاطبي (١/٥٤٤) ، فانظره، وانظر: «الصحيحة» (١٠٠٢) .
ويعجبني كلامٌ للخطابي في «غريب الحديث» (١/٧١١) عند شرحه لحديث أخرجه البخاري (رقم ٢٨٤٢) ، ومسلم (رقم ١٠٥٢) ، وغيرهما عن أبي سعيد، وفيه: «إن الخير لا يأتي إلا بالخير، ولكن الدنيا حُلوة خَضِرة» قال:
«قوله: «إن الخير لا يأتي إلا بالخير، ولكن الدنيا حلوة خضرة» مَثلٌ يريد أن جمع المال واكتسابه غير محرم، ولكن الاستكثار منه والخروج من حدّ الاقتصاد فيه ضار، كما أن الاستكثار من المأكل مُسقم والاقتصاد فيه محمود. ونظير هذا من الكلام قول الأحنف بن قيس. وقيل له: الحياءُ خير كله، فقال: «إنّ منه ضعفاً» . يريد أن ما خرج من حدّ الاعتدال لم يكن خيراً، لكن ذلك يستحيل ضعفاً وخوراً، كالجود إذا أفرط صار سرفاً، وكالشجاعة إذا أفرطت صارت تهوراً، وكالحزم إذا أفرط صار جُبناً، إلى ما أشبه هذا» .
قلت: كثرة المال سبب للتنافس في الدنيا، ونسيان الآخرة، وحينئذٍ يقع الهلاك، فليست المفاضلة لكثرة المال لذاته، ولا بجمال الأثاث، وحسن المناظر.
فقد أخرج البزار (٣٦٧١- زوائده) ، من حديث أبي جحيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ستفتح عليكم الدنيا، حتى تنجَّدَ الكعبةُ» . قلنا: ونحن على ديننا اليوم، قال: وأنتم على دينكم اليوم، قلنا: فنحن يومئذٍ خير أم اليوم؟ قال: «بل أنتم اليوم خير» ، وإسناده جيد، قاله شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في «الصحيحة» (١٨٨٤، ٢٤٨٦) .
والخيرية ليست في اللذات والأموال والمظاهر الجوفاء!
قال الله -تعالى-: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً} [مريم: ٧٤] . جاءت هذه الآية القرآنية الكريمة تشير إلى الأمم السابقة التي أُهلكت -والتي وردت قصصها في القرآن في مواضع أخرى- رداً على أولئك الذين لم يعرفوا التفريق بين المبادئ والأشياء ... أو قدّموا الأشياء والأثاث على هداية المبادئ والقيم والأفكار! قال -تعالى- في الآية السابقة لها: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ايَاتُنَا بِيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ امَنُواْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} [مريم: ٧٣] فجاء الجواب: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ ... } الآية.
وقد يمثل القرن الذي نعيش فيه أبعاد هاتين الآيتين الكريمتين ... فأنت إذا دعوت الناس بهداية =

<<  <   >  >>