للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= والمال إن لم ينفع صاحبه ضرَّه ولا بد. وكذلك العلم والملك والقدرة، كل ذلك إن لم ينفعه ضرَّه، فإن هذه الأمور وسائلُ المقاصد يتوسَّل بها إليها في الخير والشر، فإن عطلت عن التوسل بها إلى المقاصد والغايات المحمودة توسل بها إلى أضدادها. فأربح الناس من جعلها وسائل إلى الله والدار الآخرة، وذلك الذي ينفعه في معاشه ومعاده. وأخسر الناس من توسَّل بها إلى هواه ونيل شهواته وأغراضه العاجلة، فخسر الدنيا والآخرة ... » . وقال -أيضاً- بعد كلام طويل:
«ومسألة المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر مسألة كثر فيها النزاع بين الأغنياء والفقراء، واحتجَّت كل طائفة على الأخرى بما لم يمكنها دفعه من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار. ولذلك يظهر للمتأمل تكافؤ الطائفتين، فإن كلاًّ منهما أدلت بحجج لا تُدفع. والحق لايعارضُ بعضه بعضاً، بل يجب اتباع موجب الدليل أين كان.
وقد أكثر الناس في المسألة من الجانبين، وصنفوا فيها من الطرفين، وتكلم الفقهاء والفقراء والأغنياء والصوفية وأهل الحديث والتفسير، لشمول معناها وحقيقتها للناس كلهم، وحكوا عن الإمام أحمد فيها روايتين، ذكرهما أبو الحسين في كتاب «التمام» فقال: مسألة الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر في أصح الروايتين. وفيه رواية ثانية: الغني الشاكر أفضل. وبها قال جماعة، منهم ابن قتيبة. ووجّه الأولى واختارها أبو إسحاق بن شاقلا، والوالد السعيد.
والتحقيق أن يقال: أفضلهما أتقاهما لله -تعالى-.
فإن فُرض استواؤهما في التقوى: استويا في الفضل.
فإن الله -سبحانه- لم يفضِّل بالفقر والغنى، كما لم يفضل بالعافية والبلاء، وإنما فضَّل بالتقوى، كما قال -تعالى-: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ... } [الحجرات: ١٣] .
والتقوى مبنية على أصلين: الصبر والشكر.
وكلٌّ من الغني والفقير لا بدَّ له منهما، فمن كان صبره وشكره أتم، كان أفضل.
فإن قيل: فإذا كان صبر الفقير أتم، وشكر الغني أتم، فأيهما أفضل؟
قيل: أتقاهما لله في وظيفته ومقتضى حاله.
ولا يصحُّ التفضيل بغير هذا ألبتة.
فإن الغني قد يكون أتقى لله في شكره من الفقير في صبره. وقد يكون الفقير أتقى لله في صبره من الغني في شكره.
فلا يصح أن يقال: هذا بغناه أفضل؛ ولا هذا بفقره أفضل. ولا يصح أن يقال: هذا بالشكر أفضل من هذا بالصبر، ولا بالعكس؛ لأنهما مطيتان للإيمان لا بد منهما. =

<<  <   >  >>