للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فصالح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (يحنة) على إعطاء الجزية، فبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار، بعد أن عرض عليه الإسلام فلم يسلم، وكتب له ولأهل أيلة كتاب الصلح، وكتب أيضا لأهل أذرح وجرباء كتاب الصلح، وأن عليه مائة دينار في كل رجب، وصالح أيضا أهل (مينا) علي ربع ثمارهم، فمن هذا يفهم أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يتعرض فى غزوة تبوك لقتال الروم، وقد سبق الكلام عليه.

ولما وصل صلّى الله عليه وسلّم تبوك كان هرقل بحمص، قدم من القسطنطينية إليها، وكانت قاعدة مملكته بالشام، وكانت في زمانهم أعظم من دمشق، ولم يكن همّ بالذى بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه من جمعه ولا حدّثته نفسه بذلك، وبعث صلّى الله عليه وسلّم دحية بكتاب إليه، فلما جاءه دعا قسّيسى الروم وبطارقتها، ثم أغلق عليه وعليهم، وقال: «قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم، وقد أرسل يدعونى إلى ثلاث خصال: إما أن أتبعه على دينه، أو أن أعطيه ما لنا على أرضنا، والأرض أرضنا، أو نلقى إليه الحرب، وو الله لقد عرفتم فيما تقرؤن من الكتب ليأخذن موضع قدميّ هاتين، فهلم فلنتبعه علي دينه، أو أن نعطيه مالا» فنحروا «١» نخرة رجل واحد، حتى خرجوا من برانسهم «٢» ، وقالوا: أتدعونا إلى أن نذر النصرانية، أو نكون عبيدا لأعراب من الحجاز؟! فلما ظن أنهم إن خرجوا من عنده أفسدوا عليه الروم، قال: إنما قلت ذلك لأعلم صلابتكم علي أمركم. ثم دعا رجلا من عرب تجيب، كان على نصارى العرب، فقال: ادع لى رجلا حافظا للحديث، عربيّ اللسان أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه. فجاء التنوخي، فدفع إليه هرقل كتابا، وقال: اذهب بكتابى هذا إلى هذا الرجل فما سمعته من حديثه، فاحفظ لى منه ثلاث خصال: هل يذكر صحيفته التى كتب بشيء؟ وانظر إذا قرأ كتابي، فهل يذكر الليل؟ وانظر إلى ظهره، هل فيه شيء يريبك؟ قال: فانطلقت بكتابه حتى جئته تبوكا، فإذا هو جالس بين ظهرانى أصحابه محتبئا علي الماء، فقلت:

أين صاحبكم؟ قيل: ها هو ذا. فأقبلت أمشى حتّى جلست بين يديه، فناولته كتابي، فوضعه في حجره، ثم قال: ممن أنت؟ فقلت: أنا أحد تنوخ، قال: هل لك في الحنيفية ملة أبيك إبراهيم؟ قلت: إنى رسول قوم وعلي دين قوم، حتى


(١) النخير: صوت بالأنف.
(٢) جمع برنس: ثوب رأسه ملتصق به.