للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وأما بعثة الرسل هل هي جائزة أو واجبة؟]

فاعلم أن المؤمنين بالرسل اختلفوا: هل البعثة جائزة أو واجبة؟ فقال عامة المتكلمين بعثة الرسل جائزة، وعند المحققين أنها واجبة، ولا يعنون أنها تجب على اللَّه تعالى بإيجاب أحد ولا بإيجابه على نفسه، بل يعنون أنها متأكدة الوجود لأنها من مقتضيات الحكمة، فيكون عدمها من باب السفه، وهو محال على الحكيم، وهذا كما أن علم اللَّه وجوده يجب لكون عدمه يوجب الجهل، وهو محال على العليم.

ودليل الجواز أن ورود التكليف بالإيجاب والحظر والإطلاق والمنع ممن له الملك في مماليكه ليس مما يأباه العقل أو ندفعه الدلائل، فله أن يتصرف في كل شخص من أشخاص بني آدم بأي شيء شاء من وجوه التصرف، منعا كان أو إطلاقا، حظرا كان أو إيجابا، ثم يعلمهم ذلك إما بتخليق العلم فيهم أو بتخصيص بعض عباده بالعلم من جنسهم أو من خلاف جنسهم، بإفهام صحيح أو بوحي صريح.

ودليل الواجب أن في بعثة الأنبياء من الفوائد والحكم ما لا يفى:

فمنها: تأكيد دليل العقل بدليل النقل، ومنها قطع عذر المكلف على ما قال اللَّه تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [ (١) ] ، وقال: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا [ (٢) ] .

ومنها: أن اللَّه عز وجل خلق الخلق محتاجين إلى الغذاء للبقاء، وإلى الدواء للسقام ولحفظ الصحة وإزالة العلل العارضة، وخلق السموم القاتلة، والعقل لا يقف عليها، والتجربة لا تفي بمعرفتها إلا بعد الأدواء، ومع ذلك فيها خطر، وفي بعثة الأنبياء معرفة طبائعها من غير خطر.

ومنها: لو فوض كيفية العبادة إلى الخلق لجاز أن تأتي كل طائفة بوضع خاص، ثم أخذوا يتعصبون لها، فيقضي إلى الفتن.

ومنها: أن ما يفعله الإنسان بمقتضى عقله يكون كالفعل المعتاد، والمعتاد لا يكون عبادة بخلاف ما يفعله امتثالا فإنه يكون محض العبادة، ولذلك ورد الأمر بالأفعال الغريبة كالحج، والمقادير التي لا تفعل في غير ذلك.


[ (١) ] النساء: ١٦٥.
[ (٢) ] طه: ١٣٤، وتمامها لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى.