للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وانتهت إمبراطورية

الرعب والتجسس

محمد حامد الأحمري

سنوات قلائل شهد العالم فيها نهاية الإمبراطورية الشيوعية التي لم يخطر

على بال دارس للحضارات أن يرى نهاية إمبراطورية بهذه السرعة وبلا غزو

خارجي ولا ثورة مضادة، كهنة المعبد أنفسهم حطموه على رؤوسهم.، وأنهوا

أسطورة غريبة وفصلاً نشازاً في تاريخ العالم (دولة الإلحاد) !

الذين قرأوا ملحمة البداية الشيوعية وعنف رجالها وشدتهم لا يكادون يصدقون

هذه النهاية الهزيلة وضعف الحكومة وتهاوي قدرتها ونهاية مركزيتها ونهاية الجيش

والجاسوسية بل نهاية الحزب إلى غير رجعة. ذلك أن العالم قرأ عن روسيا كتب البطولات الأسطورية ككتاب (عشرة أيام هزت العالم) [١] وغيره من الكتب التي مجدت الزعماء الشيوعيين وكما سموهم زوراً (أنبياء الثورة) [٢] ، وكانت هذه الكتب تمجد البطولات الزعامات، وما كان يدرك القارئ في بلدان العالم الإسلامي وبلدان العالم الثالث أن هذه الكتابات والمبالغات في تمجيد الزعامات تعني وجود طبقة جديدة مستغلة ومحطِّمة لإنسانية الفرد واحترامه وحقوقه في

روسيا، لقد كان الشيوعيون يمجدون أفراداً منهم إلى حد العبادة، يرتفع هؤلاء الناس فوق كل نقد وفوق كل شخص وفوق كل مبدأ حتى كانوا هم المبادئ وهم

الدولة وهم الشعب وهم كل شيء، وكان ذلك يعني دون شك تحطيم الشعب وإذلاله، ذلك أن الأمة كانت محرومة من السلطة تماماً في روسيا، فإذا كانت السلطة عبارة عن وحدة مكونة من مائة درجة فقد كانت في روسيا مائة كاملة بيد الرئيس والحزب، وهذا يعني فقدان الشعب لأي حق ولهذا كان الشعب يترصد نهاية الحزب حتى يسلب منه كل شيء، وهذا ما حدث اليوم حتى أصبحت روسيا تهدم وتبيع تلك الأصنام التي نُحتت لزعمائها، الذين كانوا متفردين بكل شيء.

لقد كان التطرف في الاستبداد يعني الهدم والخلاص من الشبح الذي كان

مخيماً بتطرف مقابل، إن المستبد مهما رأى أنه يملك أزمَّة الأمور فإنه سرعان ما

يفقد كل شيء، يفقد كل سلطة وكل احترام، ويكون نقطة سوداء قاتمة في تاريخ

الأمة أي أمة؛ وبمقدار ما يرى نفسه محترماً معصوماً صائب الموقف والقرار،

يكون الرد عليه يوم سقوطه غاية في احتقاره واحتقار شخصه وأعماله، وكل أتباعه

وحواشيه. وهذه نهاية كل حكم فردي. وهكذا كانت روسيا ما بين فردية الحاكم

واستبداد الحزب.

تأخذ الدول زمناً طويلاً حتى تسقط، وكما يقولون لم تسقط روما في يوم واحد، ولكن روسيا سقطت في يوم واحد، وكأنها تنكر تلك القواعد التي يروق للمؤرخين

أن يقفوا عندها ويقيسوا عليها، وروسيا تعطي الدارس مزيد وعي بأن الدول

الكبيرة تبقى جثتها الهامدة تخيف الناظرين وقتاً طويلاً بعد موتها حتى إذا تهاوت

وخرت بعد سنين تبين الناس أن لو كانوا يعلمون الحق ما لبثوا في رعب مهين،

ومشكلة المراقبين لأحوال هذه الدول أنهم لا يستطيعون تجاوز الماضي بسهولة،

ولا معرفة حقيقة ما يجري؛ لأن السمعة الهائلة وضخامة الأمجاد واتساع الرقعة

وقوة الجيش والـ (ك. ج. ب) (الاستخبارات الروسية) ، كل ذلك يصنع

حاجزاً بين الأعين. وبين حقيقة ما كان يحدث من روح منهارة وفساد مقيم.

عقاقير لإحياء الموات:

١- الإرهاب:

حين اشتد هرم بو رقيبة وخرفه طالب بإعدام رجالات الاتجاه الإسلامي في

تونس، وهكذا الأنظمة إذا أوشكت على الموت قاومته بالإرهاب والتعذيب

والتظاهر بالحياة والقوة، وهكذا يقاوم الحكم المشرف على الموت بالإرهاب خارجياً

إذا عدم المخالف في الداخل وسكت الجميع توقّياً لغضب شيخوخته ورعونة قراراته

التي تميته أخيراً.

وعندما كانت روسيا تشيخ وتذبل ويهترئ جسمها كما كانت أجسام زعمائها

المسنّين كبريجنيف، وتشيرننكو، وأندروبوف الذين تلاحق هلاكهم في زمن

قياسي - كانوا يحاربون هذه الشيخوخة والنهاية بمساحيق إرهابية في أفغانستان ويحاولون استعادة أنفسهم وإشعار العالم بأنه لم يزل في عظامهم مخ وقوة.

وكانت أفغانستان المسمار الأخير في نعش إمبراطورية الاستبداد، وقد كانوا

يأملون أن تكون أفغانستان وجهاً جديداً معبراً عن قوتهم وشدة نفوذهم ولكن هذه

المساحيق الإرهابية التي يتظاهر أهلها بالقوة لم تزد أصحاب الحق إلا إصراراً على

حقهم ولم تزد على أن حطمت بقية الشيخوخة وتحرك المقاومون في بولندا،

وشرقي أوربا ورومانيا وألمانيا الشرقية.

٢- التجسس:

وتلجأ الحكومات المنهارة في زمن شيخوختها إلى التجسس وترى أنه هو الذي

يحفظ كيانها ويرصد أعداءها، فتضخم من هذا الجهاز وتعلي من شأن رجاله وتفتح

أمامهم الأبواب الواسعة، فقد تولى رجال الـ (ك. ج. ب) زعامة روسيا وجاء

أندروبوف من الـ (ك. ج. ب) ثم جاء بعده غورباتشوف من نفس المبنى

ومن نفس المنصب بل ونفس لم البلدة، جاء الجواسيس الروس إلى الحكم ليقولوا

للناس: نحن أقوى وأقدر وأعلم بأمور العالم، والجواسيس يعلمون الكثير؛ فمنهم

الجندي الغبي الذي يحل مشكلات الدولة بالسوط والإرهاب ونشر الخوف في

المجتمع فيتولى أشباح وأشباه رجال وخيال دولة وما فيها من الدولة شيء؛ إذ يجعل

المجتمع كله عبارة عن مكتب للتحقيق، فالكل متهم، والكل خائف، وراية الخوف

والجوع والذل والعبودية مرفوعة.

وقد يوجد من الجواسيس عقلاء يعترفون بالانهيار ويحاولون إيقافه وقد لا

يوفقون، وتكون الأزمة أكبر من جهودهم كما حصل قديماً زمن هتلر، والآن مع

غورباتشوف. وهناك حقيقة تاريخية تغفل عنها الحكومات ولا يجرؤ أحد على

ذكرها في غمرة الزهو بجهد الجواسيس، ألا وهي التناسب العكسي بين زيادة

ونفوذ الجاسوسية وقوة الدولة، فكلما زاد عدد الجواسيس وقوي شأنهم ودورهم في

المجتمع كلما كان زمن انهيار الدولة قريباً؛ ذلك لأنهم يكونون سلطة داعمة للدولة

في البداية تحت هيمنتها في بادئ الأمر، ثم مشاركة مؤثرة في قراراتها في المرحلة

الثانية، ثم تستبد بالأمر في المرحلة الثالثة، ويصل زعماء هذه الطائفة الجاسوسية

إلى مقاعد السلطة وقد مَرَنَ سلوكهم وعقولهم على الإرهاب واحتقار الإنسان،

فتكون النهاية التي حذر منها الحديث: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس

أفسدهم» ، فتنعدم الثقة بين الناس وترتفع شريعة الغاب ويسود الرعب مع الأجهزة

الخفية وانتشار المراقبين، ويكره الناس العمل لأنفسهم وبلدانهم، وتهون القضايا

لديهم ويكرهون أوطانهم وتقل نزعة الحمية عندهم؛ لأنهم يشعرون بأنهم مطارَدون

ومسحوقون فيها، مستباحة أعراضهم وأموالهم، ويقل الإنتاج وتنهار الزراعة

والصناعة وتسود الرشوة والفردية واقتناص الغنائم العارضة عن طريق الجواسيس

أو ثقافة الجواسيس التي يصبغون بها البلاد.

ولقد حمل التاريخ لنا شواهد على هذه القضايا تحتاج إلى وعي وتدبُّر؛ ذلك

أن الدول حين قيامها تعتمد على القوة المؤسسة وعلى صدق الدعوة وحرارة الإقناع

وتوجه الجموع إلى العمل على ترسيخ الوضع الجديد الذي تراه بديلاً جيداً، فإذا

تولى هذا الجيل وقل اهتمامه بسبب وجوده وعلة سيادته ذهب يبحث عن بدائل

لترسيخ وجوده ويوهمه ضعفه وفقدانه للفكرة أو للمبدأ الذي قام من أجله أن

الجاسوسية هي التي تضمن له البقاء وتحافظ على السلطة، وفي النهاية حيث ينتهي

المبدأ أو الفكرة ويطفو الأشخاص فيسخِّرون الأمم لذواتهم فقط وبلا شريك والوسيلة

الجاسوسية هي التي تسلبه سلطته. وتنهي قوته وتجعله يعيش في زنازين الوهم

والخوف. ذلك لأن أجهزة الجاسوسية لا تبني مكانتها لدى الحكم إلا بعد إخافته

وإذلاله وإشعاره بالحاجة الدائمة لهذا الجهاز الذي يبعده يوماً بعد يوم عن الواقع

ليغرق في وهم أن العالم كله ضده، وهي مشكلة تبدأ من إيجاد المكانة للجواسيس

حيث تسعى لإقناع الحكم بأهمية دورها ثم يصبح هذا اللعب والترويع عملها ليس

للشعب وحده بل للحكم، تخيفه وترهبه حتى يأتي الزمن الذي تسلبه الحكم نهائياً أو

تحتفظ به رمزاً فارغاً وتكمل مشوارها في ممارسة السلطة الفعلية التي تتهدم على

رأسها ورأس الرمز أخيراً.

شاهد من الماضي:

وقد استعان المأمون العباسي بالجواسيس، وعمل في خدمته جهاز مخابرات

قوي من الرجال والنساء حتى قالوا: إنه بلغ عدد النساء اللاتي يتجسسن في بغداد

ألفي امرأة ولكن قد كانت هذه الخطوة من الأسباب التي أفقدته النفوذ في بغداد

وتسلط الغرباء على البلاد حتى تسلّم الأتراك السلطة وتحول الخليفة العباسي من بعد

المعتصم إلى مجرد كلمة تقال يوم الجمعة؛ حتى قال أحد الخلفاء العباسيين واصفاً

حاله:

أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعاً عليه

إليه تُحمل الأموال طراً ... وما من ذاك شيء في يديه

وشواهد من الحاضر:

وفي ألمانيا كانت سيادة الغستابو وهيمنتها على الحياة الألمانية والجيش

والمدنيين تمثل النهاية الداخلية للألمان، حتى إذا أراد القادة الألمان خلاص ألمانيا

من القيادة الاستبدادية لهتلر التي ورطتها في الحرب كان العائق هو الغستابو.

وكانوا هم المتنفذين وعلى أيديهم وتحت مشورتهم ودعمهم لهتلر هلك ملايين الألمان

وقُتل قادة الجيش حتى لقد سقوا روميل السم واتهموه وغيره بالخيانة وتوالت

الهزيمة والرعب في الداخل وقسّم البلد وانهارت الأمور حتى توفر العقلاء وأبعدوا

الغستابو وحكمه، وعاشت ألمانيا الغربية حياة جديدة وعدلاً جديداً، وكانت السلامة

من سرطان الجاسوسية. ولكنه بقي قريناً للإرهاب في ألمانيا الشرقية حتى تخلت

ألمانيا عن هونيكر وزبانيته.

وكان أبشع الأمثلة تشاوشيسكو في رومانيا التى حكمها بالجاسوسية والرعب،

حتى لقد شق ممرات تحت الأرض له ولجواسيسه إلى كل المناطق المهمة في مدينته

بحثاً عن الأمن، واستسلاماً لمشورة الجواسيس، وكانت عاقبته شر عاقبة، وقُتل

مع زوجته شر قتلة.

والفرق بين هذه الأجهزة السابقة وغيرها من الأجهزة التي لم تزل تمارس لم

دورها إلى الآن في (البُعد عن التدخل في السياسة الداخلية) وتعمل على إخضاع

الأعداء في الخارج كالـ (سي. آي. إيه) والموساد هو أن هذين الجهازين

الأخيرين لم تزل الدائرة الداخلية محظورة أمامهما إلا في إطار ضيق [٣] . وإن

كانت بداية الانكفاء الأمريكي إلى الداخل والسلم الذي تخطط له (إسرائيل) قد

ينهيان المواجهة الخارجية ويتولى هذان الجهازان عملهما التدميري في الداخل.

وهناك مؤشرات على تدخل هذين الجهازين في إحداث الفوضى السياسية، فهذه

(إيران غيت) و (أوليفر نورث) ، وبوش يأتي للرئاسة من رئاسة الـ (سي. آي. إيه) وأيضاً بدأت المؤشرات المزعجة في علاقات الموساد بالحكومة الإسرائيلية

وحجب الموساد لبعض المعلومات المهمة عن الحكومة [٤] .

والمقصود بالتجسس المدمر للشعوب هو التجسس الداخلي الذي عاناه الشعب

الروسي وتعانيه بعض الشعوب التي اقتبست هذا النظام من روسيا وهتلر، ولكن

شعوب العالم المتخلف لا طاقة لها باستيعاب العبر الكبرى! .


(١) كتبه شاهد عيان لأيام الثورة هو جون ريد مؤسس الحزب الشيوعي الأمريكي.
(٢) من الكتب التي شاعت عن هذا: الثلاثة الذين صنعوا الثورة لينين وتروتسكي وستالين لوولف وكتاب النبي عن تروتسكي لإسحاق دويتشر وكتاب لينين للويس فيشر.
(٣) مر في تاريخ أمريكا ما سمي بسنوات المكارثية حين قاد النائب مكارثي حركة مكافحة الشيوعية فنشر الرعب في المجتمع بدعوى ملاحقة الشيوعيين وذهب ضحية هذه الحركة عدد من التجار والسياسيين ولكن كانت الموجة المضادة أقوى فاستطاعوا إيقاف الرعب الداخلي وامتهان الجواسيس لحرمات الناس، وبقيت هذه الذكرى المؤلمة في أذهانهم حتى أن الطلاب ليتظاهرون في الجامعات حين يعلن ضباط الـ (سي آي إيه) عن قدومهم إلى الجامعات لتجنيد موظفين جدد! .
(٤) وردت إشارات لهذه القضية في كتاب (على طريق الخداع) لفيكتور أوستروفسكي.