للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الانصهار في حمأة التهلكة

د. عبد الله عمر سلطان

ما من يوم تطلع فيه الشمس، إلا يزداد اليقين بأن هذه الأمة أُتيت من مقتل،

وجوبهت من جهة ضعف، وتخاذلت عن صيحات التحذير، وآيات النذير ... ،

فالقرآن الكريم، منهجها الذي يجب أن تتحاكم إليه، مليء بأخبار المهالك، والفتن

وأسبابها، والسنة الكريمة أتت محذرة من الوهن وأسبابه، والضمور ومقدماته..

والإخلاد للدنيا والانغماس في حمأتها كان في معظم الأطوار البشرية نتيجة لتمكن

أمة وعلو كعبها وشأنها.. حتى إذا فرحت بما نالت وظفرت، كان ذلك سبب زوالها

وحقها ...

أما أمتنا اليوم، التي تفجر من تحت أقدامها خزائن الأرض فإنها حرقت كل

مراحل النصر والتمكين واكتفت بالنعم، كما ينقلب السفيه الأحمق في مال موروث

لم يبذل فيه عرقاً ولا أنفق فيه جهدا أو كدحاً.

نحن أمة عالة على ثروتها، وثروتها - ويا للبشاعة - خنجر يوجه إلى

صدرها لإغراقها في التافه والسطحي والهامشي حتى فقدت كل أسباب المنعة والقوة، وبدلاً من أن تكون هذه النعمة الموهوبة أداة بناء، كانت أداة هدم، وبدلاً من أن

ترقى إلى وسيلة تمكين، صارت قنطرة انكسار متتال.

نحن أمة حتى قرن مضى، كانت تعيش التكافل وتشعر بأحاسيس الجسد

الواحد..، وما إن انقلبت أعضاؤها في عصر الانحطاط إلى قبائل تسمى دولاً،

وعشائر تملك مقعداً في الأمم المتحدة، حتى غُذي لدى الأغنياء شعور العزة والأنفة

انطلاقاً من الثروة الزائلة، وغرس في يقين الضعفاء هذا الحقد المريع على إخوانهم

الميسورين لكونهم ميسورين ... أصبح الغني لا يعرف قيمة سوى للدرهم

والدينار ... والفقير لا يلهث سوى من أجل ذلك البريق ... بل وفي غفلة وجهل ... رضينا أن صارت دنانيرنا ودراهمنا أوراقاً خضراً نقش عليها الطاغوت الأمريكي عبارته الكاذبة (بالله نحن نثق In God We Trust) وأصبحنا لا نثق إلا بهذه الورقة القادمة عبر البحار ... أليست التهلكة ... كما رواها لنا أبو أيوب ... حينما حمل رجل من المسلمين على الروم فقال الناس: مه مه، لا إ له إلا الله، يلقي بأيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب الأنصاري: إنما تأولون هذه الآية هكذا أن حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة، أو يبلى من نفسه! ؟ إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، فلما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام قلنا: هلم نقيم في أحوالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: [وأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ] فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها دون الجهاد، قال أبو عمران: - راوي الحديث - فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية.

التهلكة الإقامة والتركيز على مظاهر الزينة المنتفشة، وترك رسالة الله في

الأرض وحملتها يلاقون أبشع عصور السحق والاضطهاد.

التهلكة أن ترسم لنا جامعة ستانفورد (خطط التنمية) كما حصل في بعض

الدول العربية، ومن ثم تضع وزارات التخطيط زوراً اسمها على هذه الخطط ...

التهلكة أن تهجم الأمة بلا ضابط ولا رادع نحو بيع العينة والأخذ بأذناب البقر، والرضى بالزرع، وترك الجهاد.

التهلكة أن تصبح أمتنا نهباً للأعداء وعملائهم من البيادق المحلية الذين سقوا

أمتنا المر والعلقم، حتى أصبحنا كالقصعة تماماً والتي يحيط بها الواهنون من غثاء

الأمم.

التهلكة أن تتحول آلاء الله ونعمه إلى وسيلة انتحار بطيء نتجرعه بحبور

وننتظر مزيداً منه في مرحلة الغيبوبة التي لا بد أن تنجلي! !