للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيان الأدبي

الأدب الإسلامي

بين القبول والرفض

د. حسن بن فهد الهويمل [*]

تعيش المذاهب الغربية والشرقية مخاض رؤية معزولة عن وحي السماء،

إنها تجهيز في إطار عالم الشهادة وهو عالم لا يتجاوز ظاهر الحياة الدنيا. وقضية

الأدب الإسلامي في إطار هذه البيئة تحتاج إلى تحرير، فهي الآن مسألة خلافية

حتى عند الإسلاميين الذين يحملون هم التناول الإسلامي، ولا يعترضون على

المضمون بل يرون مشروعية الأداء ويحتمونه، ثم هم يختلفون بين أن يكون

للمشروع مصطلحاً أو نظرية نزعة أو اتجاهاً، والأطروحات التي وصفت

المصطلح بالبدعة، والأطروحات المضادة لا تنفك عن ترديد اللغط المعروف،

وسوف أحاول تخطي ذلك قدر المستطاع متخلصاً من معوقات التيئيس، ومحاولاً

تخلية الموقع من بعض التساؤلات التي تركها بعض الكتاب.

ويقيني أن أي مشروع جديد لا بد له من حركة تمحيصية ليأخذ وضعه

الطبيعي وأنا متفائل بل متأكد بأن مصطلح الأدب الإسلامي سيأخذ هذا الوضع

مسقطاً كل الإشكاليات، وأملي أن تتوفر له الكفاءات المقتدرة لتبحر في مركبه وسط

الأمواج المتلاطمة، وما لم تتضافر الجهود فإن هاجس الخوف سينمو وبالتالي

تصبح التجربة أقرب إلى الفشل المؤدي إلى الخروج من دائرة الضوء.

وإشكالية المصطلح الإسلامي تنمو بفعل الخصوم، والخصوم فئتان: فئة

تستبطن سوء النية تريد للمبدع والناقد التخلص من سيطرة الدين، وهذه الفئة

تنسجم مع دعوات التحرر من سلطة الماضي بما فيه الدين، ولا صعوبة في مجادلة

تلك الطائفة لأنها لا تطرح إشكاليات بل تطرح رأياً رافضاً. وفئة ترى أن

مشروعية التناول الإسلامي قائمة منذ البعثة ولا حاجة إلى تأطيرها ضمن مصطلح

متميز. وهذه الفئة يمكن التحاور معها لأنها تمارس ما تمارس من باب التحفظ فقط، وهي لا تمنع أبداً مشروعية التناول بروح إسلامية، ونواياها حسنة ولكنها بحاجة

إلى تجاوز الظاهر والخوض في عمق القضية. ومع خطورة الفئة الأولى فإن

محاورتها يجب أن تكون في مشروعية الإسلام فهي كالفئة الكافرة لا تطالب بفروع

الشريعة. وقبل أن نستهل الحديث نود الإشارة إلى شيئين:

- أولهما: ثنائية الشكل والمضمون؛ ففئة ترى استقلال الشكل الفني عن

المضمون العقدي وهذا يستتبع عزلة عن الحياة، وفئة ترفع شعار الفن للحياة،

وتؤكد على مبدأ الالتزام بقضية (ما) وهذا يدخلنا في قضية الالتزام ومعالجتها على

مستويات عدة وهو ما لا نريده الآن.

وفي اعتقادي أن لا فصل بين الفن والحياة، فلا حياة بلا فن، ولا فن بدون

حياة واعية. والتجربة جزء من الحياة أو هي الحياة عينها، والإبداع بدون تجربة

عبث ولهو، فالفن إذاً استعادة التجربة حركياً في المسرح. وتعبيرياً خيالياً على

الورق. والإنسان في كل ذلك عنصر هام في التجربة.

- وثانيهما: أنه يتحتم على كل إنسان يعرف أبعاد مسؤوليته ويرضى بهذه

المسؤولية ممارسة ومنهج حياة أن يعيد النظر في أسلوب عمله. والإنسان الذي

رضي بالله رباً، بالإسلام ديناً له مسؤولية، تلكم هي مسؤولية العبادة والدعوة إليها:

[ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] .

[ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ] .

وحين لا نجد بداً من تحمل هذه المسؤولية عملاً ودعوة فعلينا أن نستذكر أنه

من الأفضل أن نعيش هذه المسؤولية باستمرار [واعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ] .

[الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وقُعُوداً وعَلَى جُنُوبِهِمْ] نعيش لها ومن أجلها وفق

منهج محكم متطور يلائم العصر ويستجيب لحاجاته، والدعوة إلى سبيل الله بالكلمة

الطيبة وبالأسوة الحسنة، والمسلم الفذ هو الذي يعرف الحق ويثبت عليه، ويدعو

إليه، ويتمثل الإسلام قولاً وعملاً على ما كان عليه سلف الأمة الذين رضي الله

عنهم ورضوا عنه. وعلى ضوء هذين الشيئين تتجلى لنا حياة المسلم التي لا تعرف

الفراغ فهي مليئة بالعمل لدنياه وآخرته، والكلمة الطيبة جزء من العمل الجاد المثمر

[أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي

السَّمَاءِ] .

فهناك ثبات وهناك سمو. والإبداع الفني لا بد أن ينطوي على الثبات والسمو

وما الأدب الإسلامي إلا تجسيداً لهذا الثبات وهذا السمو، فالله لا يحب الجهر بالسوء، ويأمر عباده بأن يقولوا التي هي أحسن وينهى عن لهو الحديث، ويُثبت على

القول السديد، ولا يصعد إليه إلا الكلم الطيب. وإذاً فثمة تلازم بين الكلمة الطيبة

والإبداع. وإذ يكون التلازم.. تكون حتمية الأدب الإسلامي، والكلمة مادة الفن

المقروء، والفن ضرورة إنسانية والنزوع إليه فطري، والاستجابة له طوعية وأثره

واضح في الحديث (إن من البيان لسحراً) .

والسحر يجعلك تتلبس بالاستجابة دون وعي، ومن ثم قال توفيق الحكيم:

(لو علم رجل الفن خطر مهمته لفكر دهراً قبل أن يكتب سطراً) فالحركات التي

غيرت ملامح التاريخ وصاغت الحياة من جديد فتق لها المبدعون، ألم يكن للرسول

شاعر في مقابل شعراء الوفود، وخطيب يفوق خطباءهم؟

والمدركون لقيمة الفن الجمالية والدلالية، وخطورة دوره وأهميته يتلبثون

كثيراً قبل الإفضاء بإبداعهم، ولعلنا نعرف صاحب الحوليات، ومدرسة عبيد الشعر، وفي العصر الحديث نسمع أن جوستاف فلوبير الفرنسي صاحب قصة (مدام

بوفاري) قال في معرض حديثه: (ربما أخذت أسبوعاً أو أسبوعين في صياغة

جملة من جمل هذه القصة) ويقول: (قرأت ألفي كتاب من مكتبة المتحف الوطني

الفرنسي من أجل استيفاء الأرضية الخلفية والاجتماعية لإحدى القصص) .

(وماركيز) أنتج إحدى قصصه في ستة عشر عاماً كل هذا يدل على أن

الأدب لم يعد جمالياً للمتعة، وإنما استصحب الجمالية وتخطى بها إلى عمل جاد

لتحويل المسار البشري وتغيير قناعاته، وثقافة النص تغلب على جمالياته، والثقافة

والإبداع يشكلان حجر الزاوية في العملية الإبداعية فلا أدب بدون ثقافة معمقة

وشاملة، ومن ثم أصبح الأدب عملاً فكرياً متلبساً بالفلسفة يطرح رؤية متميزة

للكون والحياة والعالم، هذا التحول في مسار الأدب جعل له خطره وأهميته وأثره

الواضح في تشكيل ذهنية المتلقي مما دفع الصفوة من رجال الفكر والأدب إلى

التفكير في التدخل المباشر لتوجيه الأدب والفن عامة وجهة تنسجم مع المقتضى

الإسلامي، وتسهم في صياغة الذهنية صياغة توجه الإنسان إلى بارئه.

وإذا كان هناك موقف رافض أو متردد أو متحفظ من مشروعية مصطلح

الأدب الإسلامي، فإن هذا الموقف يجب أن يكون أكثر احتداماً وتصلباً في وجه

المصطلحات الطارئة زمناً، والطارئة فكراً، مصطلحات تنطوي على توجهات

فكرية مضادة للفكر الإسلامي، إن هناك أدباً وجودياً، وماركسياً، وقومياً، وحداثياً، وعلمانياً، هذا بالنسبة للبعد الدلالي، وهناك آداب أخرى حسب الاتجاه الفني،

ومذاهب واتجاهات تسرح وتمرح في وسطنا، وتسهم في تلويث وعينا، يتبناها

أبناء المسلمين، أو على الأقل يمنحونها مشروعية الوجود ولا يجدون غضاضة من

معاشرتها وطرد الغربة عنها، ولم نسمع إلا القليل ممن يبحث في مشروعيتها.

وإزاء طوفان المذاهب الأدبية لا بد من أدب إسلامي يبرز شخصيتنا، ويكرس

خصوصيتنا، والفن هو الأكثر قدرة على حمل هذه الخصوصية. وإذا كنا قد

رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً، وتحملنا في سبيل ذلك مكائد العالم المتكبر، فلا أقل

من أن نسعى لتأصيل وتكريس الأدب الإسلامي، ليسهم في الذوذ عن مقدراتنا،

ومقدساتنا الفكرية، وليس فيما نسعى إليه بدعة ولا تجزئة، فأسلمة الأدب مشروع

إسلامي، ومجيء المصطلح لم يكن بدعاً من القول فالإسلام، منذ البدء مارس

أسلمة الشعر.

لقد نزل القرآن الكريم يحدد فئات الشعراء [والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ] إلى

أن قال: [إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] [وذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وانتَصَرُوا مِنْ

بَعْدِ مَا ظُلِمُوا] هذا السياق القرآني يحدد ملامح الشعر الإسلامي، وإذاً فهناك شاعر

إسلامي تبرزه سماته وخصائصه، وشاعر آخر تحدده توجهاته، ومصطلح الأدب

الإسلامي يقيم صروحه على هذا التقسيم القرآني. وينطبق على الأدب الرخيص

والأدباء المنحرفين قوله تعالى: [ومِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا..] إلى أن قال: [وإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا..] وهل هناك أخطر

من سهم الكلمة الجميلة المسمومة؟ ! فالأدب الإسلامي إذاً مشروع تطهيري يحاول

تنقية الكلمة من الشوائب، ويؤكد على صدق المحتوى وشرف الغاية وسلامة

الوسيلة، وجمال العرض، ويعترف ببشرية الإنسان الناقصة، وحاجتها إلى

الترويح البريء واللهو المباح.

والأدب العربي المعاصر لا ينهض بكل هذه المهمات، ولم يعد خالياً من

الشوائب فالضخ الغربي والشرقي وقابلية التبعية والتهالك على الطارئ، كل ذلك

أردى أدبنا العربي في أوحال المادية والعبثية والفحش، وأجهض الكلمة الطيبة

بالغموض والنثرية.

إن هناك تبعية في الأدب العربي تتمثل في المناهج النقدية، وفي فصل الأدب

عن الفكر الإسلامي، وفي إعلاء الشخصيات المشبوهة، وفي السقوط الأخلاقي

وبضرب لغة القرآن، ومحاكمة الشخصيات الإسلامية بمعايير مادية وكسر الثوابت، والإيمان بشمولية التغيير واستمراره، إنه أدب يعيش بلا هوية وبلا تماسك، ولا

خصوصية، لقد تشكلت هذه المثبطات في غياب الوعي أو تزييفه، لتكون امتداداً

لمحاربة الكلمة الطيبة التي بدأت بقول المشركين: [لا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ والْغَوْا

فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] .

لقد سمعنا منكراً من القول سربه إلينا التقليد الفج للآداب الأجنبية إبداعاً

وتنظيراً، ومن ثم تلاحقت المذاهب في لهاث مسعور كالسريالية، والدادية،

والواقعية، والوجودية، والماركسية، والحداثة الفكرية، جاء كل ذلك نتيجة رؤية

متوترة للكون والحياة رؤية مادية خالصة. وأعقب ذلك نهوض أقلام مقتدرة ومؤثرة

لنبش العفن في موروثنا الأدبي، بحجة أنه موروث، فجاء إحياء الفكر الاعتزالي،

والوثني وشعر الخمر، والمجون والغزل الفاحش، كما أعيدت ظواهر أدبية

وشخصيات مشبوهة لم تكن حاضرة في الذهن رغبة في تحويلها إلى قدوة سيئة

للناشئة، فالصعاليك، والزنادقة، والشعوبيون، والباطنيون، وغلاة المتصوفة،

كل أولئك يترددون على ألسنة الأدباء ويعبرون إلينا من شبا أقلامهم بشكل لم يسبق

له مثيل. وتضافر الجهود في مثل هذه الأقبية يبعث على الشك والارتياب في

النوايا، ويحفز على التحُّرف للتصدي والمواجهة. والمواجهة يسبقها جمع الكلمة

وتوحيد الصف تحت شعار (الأدب الإسلامي) .

لقد تعرض الأدب العربي لتغييرات أفقدته هويته، وقضت على خصوصيته

وسرعة التحولات أفقدت الأساطين زمام المبادرة حتى قال قائلهم: (قصائدنا بلا

لون وبلا طعم وبلا صوت) كل هذه الترديات تسوغ لهذه النظرية المنقذة، بل وتحتم التفكير الجاد في تكريسها وممارسة الإبداع على ضوئها لإقالة عثرة الكلمة الطيبة واستعادة ماء الحياة بعد النضوب والتصحر.

لقد كان الأدب العربي أدباً إسلامياً، وكان الخروج على مقتضى الإسلام في

الإبداع يعد تجاوزاً فردياً، أما الآن فإن الأدب العربي لم يعد في جملته إسلامياً،

ويكاد يكون الاتجاه الإسلامي فيه فردياً بحيث يمكن تمييز الأدب الإسلامي وسط

طوفان التعدي على حمى الله، ومع التباين في المحتوى بين الأدب العربي

والإسلامي فإن أحدهما لا يلغي الآخر.

ومع هذا فنظرية الأدب الإسلامي لم تجتث من الأرض، ولم تكن طارئة،

إنها تمتد بجذورها في عمق تاريخي لا مثيل له في كل الآداب العالمية، وجذور

الأدب الإسلامي مسوغات لاستمراره، فالقرآن بكل ما يحفل به من مدد بياني معين

لا ينضب يتدفق في شرايين الأدب ويمده بأرقى الأساليب وأشرف الأفكار وأنبل

الغايات. والحديث النبوي يفيض بفصاحة عربية، والشعر العربي الذي دافع عن

الإسلام جنباً إلى جنب مع المجاهدين في سبيل الله، تمتد وشائجه إلى اليوم ليضخ

فكره وجمالياته في محيط الأدب الإسلامي الحديث، أدب له هذه الجذور لماذا تقام

المحاذير من حوله، ولماذا يتساءل الطيبون عن مدى مشروعية المصطلح، لقد

طوع الغرب أدبه وسخره لخدمة مبادئه وأفكاره، وأكسبه قيمة دلالية، وجعله

رسول دعوة يتخطف الناس ببريقه، ولم يقل أحد عن هذا ما قاله المتحفظون،

والرافضون لمشروعية الأدب الإسلامي، إننا نجد من يتحفظ على مشروعية

المصطلح ملتمساً دعائم لهذا التحفظ. يقول أحد الطيبين: (لقد اعتورت تاريخنا

الإسلامي موجات أدبية فيها بذور إلحاد، كما في شعر (الحلاج) ، وأبي العلاء،

وفيها شعوبية كما في شعر بشار وابن يسار، ولكن ما علم أن الأسلاف دعوا إلى

الإصطلاح بأدب إسلامي يميزه) ، وأحب أن أشير إلى أن بذور الإلحاد والشعوبية

ممارسات فردية ليس لها تنظيم، ومجيئها في وقت كانت القوة والغلبة للإسلام

وغياب المصطلح الإسلامي في تلك الفترة لا يبرر غيابه الآن. كما تخوف

المتحفظون من التجزئة ومن ضعف أداء المنتمين إلى الأدب الإسلامي بجوار

الآداب الأخرى التي يمثلها القمم في القيمة الأدبية، ولا أحسب التجزئة قائمة لأن

هناك وشائج قربى بين الأدب العربي والإسلامي فاللغة واحدة، والقيم الجمالية

واحدة ولا يكون التمايز إلا في المحتوى إذا حاد الأدب العربي عن جادة الصواب

في تناولاته وهذا ينفي الخوف من التشرذم.

أما الخوف من ضعف المنتمين فليس الإسلام مظنة الضعف، ومن ضعف من

المسلمين فعليه ضعفه، وهل من لوازم الأدب الوجودي والماركسي أو أي اتجاه

منحرف القوة. وهل من لوازم الأدب الإسلامي الضعف بحيث نثيره كمحذور،

والله جل وعلا يقول: [ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ] يقول هذا والأمة

الإسلامية في حالة ضعف وهزيمة. وأحسب أن المتحفظ ينظر إلى الواقع المعيش.

ومهمة المفكر والأديب التجاوز بالأدب والفكر الإسلامي هذه المرحلة وإعادة مجده

وفوقيته، ويمضي المتحفظون إلى ضرب الأمثال فالأدب الماركسي - في

نظرهم - أخفق إخفاقاً ذريعاً حين أمم الأدب وفرض عليه الالتزام، وفات أوشك أن المذهب الماركسي معاكس للطبيعة البشرية، وقسر الأدب على خدمته مؤذن بفساد الأدب وتشوه جمالياته، أما الإسلام فعقيدة فطرية تلائم نوازع الإنسان وتستجيب لمطالبه، وسير الأدب في ركابه انطلاق وحرية، فلا تعني تجربة الالتزام الماركسي الفاشلة موعظة للذين يحاولون الالتزام الإسلامي، فالمسلم مطالب بالالتزام، وإن لم يكن مبدعاً، ومسؤولية الكلمة وخطورتها تتضح من قوله تعالى: [مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] والمصطفى - صلى الله عليه وسلم - حذر من حصائد الألسن وأشار إلى أنها تكب الناس على مناخرهم في النار وفي الأثر: (إن الرجل ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً) .

وتألق الأدب الوجودي - إن كان ثمة تألق - لم يتأت من عدم التزامه،

فمجرد كينونته تعني حاجته إلى أدب يبشر به، ولعل انتشاره مرتبط بتلك الحرية

المطلقة التي بلغت حد العبث والفوضى والغثيان. لقد أصبح متنفساً للمقهورين

بالشك والارتياب والرفض. وعلى الجملة فمقارنة الأدب الإسلامي بتلك الآداب

انتقاص للأدب والإسلام معاً لإنها مقارنة مع الفارق.

ومما أشار إليه المتحفظون التركيز على أهمية القيمة الجمالية بمعنى أن الأدب

للمتعة فقط، وتوريطه بالمهمات النفعية يكون على حساب جمالياته، وبالتالي ينحيه

عن مقتضيات الفن وأحسب أن الواقع المعيش أسقط من حسابه الانقطاع للجمال

والمتعة.

لقد تلبس الأدب بالفلسفة، واتخم بالفكر، وتحولت المذاهب الأدبية من

مذاهب شكلية إلى مذاهب فكرية، وامتطت صهوة الكلمة لتكون رسولاً من رسل

هذا الفكر، والإسلام سبق كل المذاهب في ذلك، والقرآن الكريم معجزة الرسول

يأتي في قمة الفن، وقد نظر إلى الجماليات صوتاً، وصورة، وأسلوباً، وقضية

النظم التي طلع بها الجرجاني تجسد الجمالية الأسلوبية بأبهى صورها، ولم يؤثر

المدلول القرآني على روعة الأداء وجمال النظم، فكيف نفكر في إثارة الملمح

الجمالي للأدب، ونعده معوقاً في طريق تلك النظرية، ومن ينكر نفعية الأدب

وأيديولوجيته وأثره الفكري والعقدي والأخلاقي؟

لقد انتهت نغمة الفن للفن. وحل محلها الفن للحياة. والفن تجربة يشكلها

الجدل مع الحياة، وقضية الفن للفن أو للحياة سفسطة لا قيمة لها، وهذا لا يعني

تحويل الفن القولي إلى خطب ومواعظ وأمر ونهي، إن الأدب الإسلامي أبعد من

كل ذلك وأشمل لكل ذلك، إن الأدب الإسلامي يريد فقط تميز الأديب المسلم بأدائه،

وذلك بإبراز الحس الإسلامي، والتفكر في خلق السموات والأرض، وتجلية

جماليات الكون للالتفات إلى مبدع الكون، ألم تشدنا الأرض وتثير انتباهنا حين

تأخذ زخرفها وتتزين؟ ألم تشدنا مناظر الطبيعة وأشكالها وألوانها المتناسقة ونظامها؟ ألم نطرب لهذه الأصوات، من حفيف وخرير وتغريد؟ إن على المبدع أن

يمارس إبداعه بحرية مطلقة، ولكن عليه أى يستحضر عظمة الخالق، فالكون

صنع الله الذي أتقن كل شيء، وهذا الاستحضار كفيل بإنتاج أدب إسلامي رفيع

المستوى ولكن الحاصل، خلاف ذلك لقد شغلنا بالطبيعة منفصلة عن خالقها، فجاء

الأدب مادياً لا قيمة له، لأنه فقد نبض الإيمان، وحين يفقد نبض الإيمان تتصحر

الحياة، ويجف معينها.

ومما أثير في سياق التحفظات في طريق مشروع الأدب الإسلامي احتياج

الشاعر إلى التغني بذاته والتنفيس عن همومه الفردية والشاعر يغني ألم الحرمان

ويصف مناظر الجمال ويحسب هؤلاء أن الأدب الإسلامي يمنع من ذلك وفاتهم أن

الأدب الإسلامي أرحب صدراً وأوسع أفقاً مما يتصورون.

إنه يستوعب كل الهموم وكل التطلعات ولا يضيق بخواطر النفس وخطراتها، وآلامها وآمالها. إن الأدب الإسلامي يحفظ ويحافظ على جماليات الفن وموسيقاه،

وصوره وخياله ولغته المتميزة، ويعرف حدود الأدب، ويرفض تداخل المهمات،

فهو لا يحمل هم الوعظ والإرشاد، ولا يفكر بالإفتاء ونظم العلوم، وكل الذي نريده

من المعارضين أن يعرفوا جيداً أبعاد الأدب الإسلامي ومقتضياته وخصائصه

وسماته، عندها لا يكون جدل أو خصام.

فالأدب الإسلامي يتفق مع الفن في القيم الفنية، أما القيم الدلالية فله موقف،

وليس بدعاً في ذلك، فالأدب الماركسي له موقف من القيم الدلالية، والأدب

الوجودي والسريالي والحداثي وكل الآداب الحديثة تحدد موقفها من القيم الدلالية.

ويقيني أننا إذا عرفنا ذلك فلن نحتاج إلى البحث عن مسوغات، ولن نلتمس

المحاذير، والنص الإبداعي الحديث لا ينجو من الأدلجة والتسييس. وإشكالية

الأدب الإسلامي لا تتجاوز إلى مشروعية الممارسة، لقيامها منذ أن وجه الرسول -

صلى الله عليه وسلم - حسان بن ثابت للتصدي للمشركين، ولكنها تقف عند

مشروعية المصطلح، وإذا كانت هناك ممارسة إبداعية فما المحذور من إطلاق

مسمى يميزها عن غيرها، وعندما لا ينتبه السلف إلى إطلاق هذا المصطلح فإن

ذلك لا يدين الماضي، ولا يمنع الحاضر، فالمصطلح تولده الحاجة.

إن الأدب الإسلامي الذي يتوجس منه البعض خيفة حين يستوي على سوقه

سينهض بفرائض غائبة إسهاماً في تصحيح الفساد المتفشي، ولن يعالج هذا الفساد

إلا أدب ينطلق من قواعده الإسلامية من القرآن والحديث. إن سرعة التحولات

أفقدت الأدب العربي هويته وشككت في انتمائه وولائه، وغمسته في أوحال التبعية

والإمَّعية وترديه في تلك الأوحال من أولويات مسوغات، الأدب الإسلامي

ومشروعيته، مصطلحاً وأداء.


(*) وصلنا هذا المقال من الدكتور الهويمل الذي يعتبر من نقاد الأدب المشهورين في المملكة العربية السعودية والبيان ترحب به وبكل الاخوة الذين يساهمون في تعميق الأدب الإسلامي.