للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مختارات

أحمد باشا الجزار [*]

من كتاب:

أعيان دمشق في القرن الثالث عشر ونصف القرن الرابع عشر الهجري

للشيخ: محمد جميل الشطي ص٣٨

ذكره الجبرتي في تاريخه المشهور، قال ما خلاصته:

هو الوزير الكبير، والدستور الشهير، أحمد باشا، المعروف بالجزار،

البشناقي الأصل. حضر إلى مصر في خدمة علي باشا حكيم أوغلي أيام ولايته

الثانية سنة ١٧١١ هـ (١٧٥٧م) ، واستأذن مخدومه إلى الحج، فأذن له. ولما

رجع وجده قد انفصل عن ولاية مصر، وسافر إلى الديار الرومية، فاستمر

المترجَم بمصر، وتزيى بزي المصريين، وخدم علي بيك (بلوط قبان) ، وتعلم

الفروسية على طريقة الأجناد المصرية، وقلده المذكور ولاية البحيرة، وأرسله

بتجريدة إلى عربانها، فذهب إليهم، واحتال عليهم، وجمعهم في مكان، وقتلهم -

وهم سبعون كبيراً - وبذلك سمي الجزار. ورجع فأحبه علي بيك لنجابته وشجاعته. وتنقل عنده في الخدم والمناصب، ثم قلده السنجقية، وصار من جملة أمرائه، ثم

كان ما كان بينه وبين مخدومه.. فتنكر وخرج هارباً في صورة شخص جزائري،

وسار إلى الاسكندرية فالروم، ثم رجع إلى البحيرة، وتزوج هناك. ثم سار إلى

بلاد الشام فاستمر فيها بين محاربات وتنقلات، واشترى مماليك، واجتمع لديه

عصبة، واشتهر أمره في تلك النواحي.

ولم يزل على ذلك إلى أن مات الظاهر عمر في سنة ١١٨٩ م - ١٧٧٥ م

ووصل حسن باشا الجزائري إلى عكا، فطلب من يكون كفؤاً للإقامة بحصنها؛

فذكروا له المترجَم، فاستدعاه وقلده الوزارة، وأعطاه الأطواخ والبيرق، فأقام

بحصن عكا، وعمّر أسوارها وقلاعها، وأنشأ بها البستان والمسجد، واتخذ له جنداً

كثيفاً واستكثر من شراء المماليك، وأغار على تلك النواحي، وحارب جبل

الدروز [١] مراراً، وغنم منهم أموالاً عظيمة، ودخلوا في طاعته، وضرب عليهم وعلى غيرهم الضرائب، وجبيت إليه الأموال من كل جهة حتى ملأ الخزائن وكنز الكنوز، وصار يصانع أهل الدولة ورجال السلطنة، ويتابع إرسال الهدايا والأموال إليهم، فقلدوه ولاية الشام، وولى على البلاد نواباً وحكاماً من طرفه وطلع بالحج الشامي مراراً، وأخاف النواحي، وعاقب على الذنب الصغير بالقتل والحبس والتمثيل، وقطع الآناف والآذان والأطراف، ولم يغفر زلة عالم لعلمه، أو ذي جاه لجاهه، وسلب النعم عن كثير من ذويها واستأصل أموالهم، ومات في سجنه ما لا يحصى من الأعيان والعلماء وغيرهم، ومنهم من أطال حبسه سنين حتى مات، وكاد البلاد وقهر العباد، ونصبت الدولة فخاخاً لصيده، فلم يتمكنوا من ذلك ولم يسعهم إلا مسالمته. ومسايرته، وثبت قدمه، وطار صيته في جميع الممالك والثغور، وراسله ملوك النواحي، وراسلهم وهادوه وهابوه، وبنى عدة صهاريج، وملأها

بالزيوت والسمن والعسل والشيرج والأرز وأنواع الغلة، وزرع في بستانه أصناف

الفواكه، وبالجملة فقد كان المترجَم من غرائب الدهر، وأخباره لا يفي القلم

بتسطيرها، ولا يسعف الفكر بتذكارها، ولو لم يكن له من المناقب سوى استظهاره

على الفرنساوية وثباته في محاربتهم أكثر من شهرين لكفاه ذلك! وكان يقول أنا

المنتظر، وأنا أحمد المذكور في الجفور. ولم يزل على حاله حتى توفي على

فراشه، وذلك في أواخر سنة تسع عشرة ومائتين وألف. انتهى كلام الجبرتي.

وترجمه العلامة السيد محمود أفندي الحمزاوي في مجموعة له فقال ما

مختصره:

صار المترجَم والياً بدمشق أربع مرات: الأولى سنة ١١٩٨ هـ - ١٧٨٤م

وبقي سنتين، ثم عزل وتولى ثانياً سنة ١٢٠٥ هـ - ١٧٩٠ م واستقام خمس

سنوات على حال غير مستقيم من قتل وسلب وأجرام عظيمة، ثم عزل وتولى ثالثاً

سنة ١٣١٣ هـ - ١٧٩٩ م وكانت العساكر الفرنساوية مستولية على مصر،

فوردت الأخبار بأنهم توجهوا إلى السواحل وأخذوا يافا وغزة، والجزار إذ ذاك في

عكا، فعقد الرؤساء والوجوه في دمشق مجلساً قرروا فيه جمع العساكر وإرسالها

معونة لأهل السواحل، وكان إذ ذاك غلاء عظيم، فجعلوا كلف الذخائر على تجار

الصابون خاصة، فبلغ المجموع من ذلك مقدار مائة وخمسين ألف قرش، وفي

اليوم الثالث توجهت العساكر من دمشق، وقدرها أربعة آلاف، وذلك في ٢٠ شوال

من السنة المذكورة، ثم لحقت بهم التيمارلية وبعض الغربية، وانقسم الجميع إلى

فرقتين: فرقة توجهت إلى جهة صفد؛ وفرقة توجهت إلى السكة نحو الجسر،

فقصدتهم أناس من العساكر الإفرنسية، ففروا بعد أن قتل عدة منهم، وعادوا إلى

دمشق، وصارت العسكر الشمالية ترد على دمشق من جميع الأقطار، حتى غلت

الأسعار، وكثر الجور والفساد، وخربت القرى من سوء إدارة الرؤساء. ثم وردت

الأخبار بأن الجزار محصور، وما زالت الأخبار تتجدد كل يوم بما وقع، والعساكر

ترد على الشام، والمفاسد على ساق، إلى أن ورد كتاب من قبل الجزار بأن

الإفرنسيين جلوا عن عكا، كما وردت الأخبار بأن مصر استُرجِعَت منهم قهراً،

وفي ٢٦ ربيع الأول سنة ١٤١٢ هـ (٢٧/٨/١٧٩٩) وصل يوسف باشا الصدر

الأعظم إلى دمشق، فاستقصى أصحاب المفاسد، وأعدمهم الحياة وسعَّر الغلال

وغيرها، ومهد الأمور. وفي أثناء ذلك ورد معروض من الجزار إلى الصدر

المشار إليه يشعر باستقالته من ولاية دمشق، فقبل استقالته. ثم إن الجزار تولى

دمشق رابعاً سنة ١٢١٨ هـ (١٨٠٣م) وهو في عكا، فأرسل إلى دمشق تعريفاً

بذلك صحبة المفتي أسعد أفندي المحاسني، وبعد تلاوته أخرجت الأوامر الصادرة

منه، فإذا أحدها بتعيين قائم المقام فجرى إيجابه، وإذا أوامر أخرى بالقبض على

عبد الرحمن أفندي المرادي (المفتي السابق) وجملة من الرؤساء والوجوه، فسجنوا

في القلعة، وفي غيرها، وكتب للجزار بذلك، فحضر الجواب بعد ليلتين بإعدامهم

الحياة، فقتلوا عبد الرحمن أفندي والدفتردار حسن أفندي ليلاً، ثم قتلوا جملة ذوات

معتبرين (ولعل منهم المفتي أسعد أفندي المقدم ذكره كما هو مشهور) وبادروا بسلب

أموال الأهالي بدون حق، وحملوا التجار أغلب الأثقال، فقد كانوا يهددونهم

بالضرب والتعذيب حتى يدفعوا المطلوب منهم، وعظم الأمر على أهالي الشام، إذ

أرسل من عكا أشخاص من الأكراد لتنويع العذاب على الأهالي بالنار والكعاب

يضعونها في مصادغ من يريدون تعذيبه وهي محمية ومربوطة بالسلاسل [**] ،

وأمثال ذلك كثير، واستمر الحال على ذلك إلى افتتاح محرم الحرام سنة تسع عشرة

ومائتين وألف (١١/٤/ ١٨٠٤ م) . وفيه وردت الأخبار بموت الجزار، فتوجهت

الناس إلى القلعة، وأخرجوا الذين حبسوا من أجل المال، ثم تتبعوا أعوان الجزار

فقتلوهم، وتفقدوا الأكراد الذين وكلوا بعذاب الناس، فعثروا عليهم في قرية (التل)

فأحضروهم وعذبوهم بمثل الأنواع التي عذبوا بها الناس، ثم نتفوا لحاهم وقتلوهم

شر قتلة. انتهى كلام السيد الحمزاوي.

وترجمه الأستاذ البيطار في تاريخه بما خلاصته:

ولد المترجَم في بوسنة سنة١١٣٥ هـ (١٧٢٣م) ولما بلغ ١٦ عاماً ارتكب

أمراً فظيعاً، فهرب إلى القسطنطينية، وقضى بها مدة وهو في ذل وفاقة، إلى أن

باع نفسه في سوق النخاسة، وآل به الأمر إلى أن بيع في مصر، فدخل في سلك

المماليك المصرية، وساعده الحظ على المرام والأمنية، حتى صار والي البحيرة،

وهناك لقب بالجزار، وكان مجبولاً على الفظاظة والقسوة، مطبوعاً على الفسوق

والآثام، سفاكاً للدماء يفعل ما يشاء، قد اتخذ هواه هادياً ونصيراً، وعتا في نفسه

عتواً كبيراً، ثم ساءت سيرته في مصر فهرب إلى سورية، ودخل دير القمر سنة

١١٨٥ هـ (١٧٧١م) ملتجئاً إلى الأمير يوسف الشهابي والي جبل لبنان حينئذ،

فرحب به الأمير وأكرمه، ثم أرسله إلى بيروت ورتب له بعض الرسوم، فأقام

أياماً ثم أعرض عن ذلك، وسار إلى دمشق. وفي سنة ١١٨٧ هـ (١٧٧٣م) جعله

الأمير المذكور متسلماً من قبله على بيروت، وجعل معه طائفة من المغاربة، ولم

تمض مدة حتى خان الأمير وعزم على مبارزته، فشرع في ترميم الأسوار وهيأ

الميرة وآلات الحرب للحصار، ومنع أهل البلاد من دخول المدينة، ولم يدع شيئاً

يخرج منها، فاستنجد الأمير يوسف بحسن باشا وهو قاصد القسطنطينية، فعاد

وأخرج الجزار من بيروت، فسار هذا بعسكره براً إلى صيدا وعددهم ستمائة،

فأرسل الأمير إليهم جماعة النَّكدِيّة، ولما التقى العسكران قتل أصحاب الجزار أكثر

النكدية، وقبضوا على أعيانهم. ثم سار الجزار إلى صيدا، فبعلبك، وعظم أمره

في تلك الأقطار، ووقع الصلح بينه وبين الأمير المقدم ذكره. ثم إن الجزار

صاحب الترجمة خان الأمير ظاهر العمر بعد أن أنعم الأمير عليه بقيادة جيشه،

فقتله بيده، ولما كان الأمير ظاهر عدواً للدولة العثمانية أنعمت الدولة على الجزار

بولاية عكا وصيدا معاً، ثم منحته الوزارة وولاية دمشق سنة ١٢١٨ هـ (١٨٣٠م) . فزاد في طغيانه من قتل الأنفس وسلب الأموال، حتى قتل خلقاً كثيراً من أعيان

دمشق ومن أفضلهم عبد الرحمن المرادي مفتي دمشق، وأسعد أفندي المحاسني

مفتيها أيضاً. واصطنع للناس أنواع العذاب بآلات اخترعها له طائفة من الأكراد

عاونوه على ظلم العباد، وأقروه على دعواه بأنه مجدد الوقت، وكان رئيسهم يدَّعي

التصوف، ويقول: إن الشيخ الأكبر أخبر عنه في فتوحاته! وقد ادعوا أن قتله

الأنفس وسلبه الأموال ليس حراماً، بل هو حلال حتى أكفروا علماء عصرهم

المنكرين عليهم. وكان من أعوان الجزار أيضاً رجل اسمه عبد الوهاب له اطلاع

في بعض العلوم، أرسله إلى دمشق على رأس طائفة من العساكر، وكان إليه

المشورة في أمورهم، فصار يتغالى في قباحته وإساءته ويتلذذ بقتل الرجال وسلب

الأموال، حتى كادت تخافه الأطفال، ومازال هذا الضال يتغالى في ظلمه حتى

تحركت الدولة الفرنساوية [٢] ، لدخول البلاد، فحاصرت عكا سنة ١٤١٢ هـ

(١٧٩٩م) ثم قدمت مراكب إنكليزية إلى عكا لرد الفرنساويين، فلم تمض مدة حتى

رجع بونابرت بعساكره، فصفا الوقت للجزار، فعاد لظلم الناس؛ بتعذيبهم بالقتل

والقطع والسحل والجدع، إلى غير ذلك من الأفعال الفظيعة والأحوال الشنيعة،

حتى صار جوره مثلاً سائراً. ولم يزل على حاله حتى هلك - قبحه الله - سنة

١٢١٩ هـ (١٨٠٤م) في عكا ودفن بها في الجامع المنسوب إليه، وعادت دمشق

إيالة على حدة سنة ١٢٢٠ هـ (١٨٠٥م) انتهى كلام البيطار. فلعق:. ورأيت

للعلامة السيد محمد أمين عابدين بيتين يؤرخ بهما وفاة صاحب الترجمة وهما قوله:

هَلَكَ الجَّزارُ ولا عَجَبٌ ... وَمَضَى بالخزْيِ وَبالإْثْمِ

وبمهلِكِهِ الباري عنا ... -أَرِّخ- قَدْ كَفَّ يَدَ الظُلْمِ


(*) باختيارنا هذه الترجمة ننفس عن صدورنا قليلاً حيث إننا نختار حالة ترتبط بحالات مماثلة نعيشها في عصرنا بأكثر من سبب ونسب، وتمنعنا الموانع من الكتابة المكثف عنها كما كتب هؤلاء المؤرخون.
(١) المقصود: جبال الشوف موطن دروز لبنان.
(**) لقد تطورت وسائل التعذيب كثيراً عند المسلمين منذ ذلك التاريخ إلى الآن، ولا فخر! .
(٢) من الطبيعي أن تستغل الدول الاستعمارية هذه الظروف، وهي واجدة - لا بد - طوائف كثيرة تتمنى مجيئها للخلاص من هذه الظلم المأساوي المخيَّم، كحال كثير من المسلمين اليوم حيث عاد كثير منهم يطلبون الخلاص من أميركا وبريطانيا وفرنسا.