للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عندما يتحول الاختلاف

من تنوع إلى تضاد! !

سعد آل عبد اللطيف

كما أن العبادات تتعدد وتتنوع ما بين صيام وصدقة وصلاة - وهذا من رحمة

الله وحكمته - كذلك أيضاً تتعدد أساليب الدعوة ومجالاتها وتتنوع ما بين وعظ

وخطابة، وأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأليف وتصنيف وتربية وأعمال

خيرية وإغاثة ... ألخ.

وهذا التعدد في الدعوة والعمل والإسلامي ينصب في قناة (اختلاف التنوع)

حيث يعمل الجميع على محاولة سد حاجات المجتمع وتصحيح مساره بشتى

الأساليب وعبر جميع الوسائل والطرق في سبيل نهوض الأمة الإسلامية وإيقاظها

من رقدتها وسباتها العميق. ولكن تحول هذا الاختلاف - عند البعض - من تنوع

إلى تضاد وربما تعارض وصدام! حينما يتوقع البعض في مجاله الدعوي ويضخمه

ويرى أن الدعوة الإسلامية منحصرة في هذا المجال فقط وأن غير هذا المجال لا

يستحق الكثير من الاهتمام وبذل الجهد والوقت. وهذا غالباً يؤدي إلى ردة فعل من

أصحاب المجالات الدعوية الأخرى وينجم عنه تعصب كل واحد لمجاله الدعوى

الذي يعمل في ظله ويتقوقع حوله دون غيره ويؤدي هذا إلى ظهور التحزب

والتفرق ويصاحب ذلك شعور العداء والبغضاء بينهم رغم أنهم يستظلون تحت راية

الدعوة الإسلامية ومنهج أهل السنة والجماعة. وهذا داءٌ قديم أشار إليه شيخ الإسلام

ابن تيمية -رحمه الله- فقال: (.. والسلف كان كل منهم يقرأ ويصلي ويدعو ويذكر

على وجه مشروع وأخذ ذلك الوجه عنه أصحابه وأهل بقعته، وقد تكون تلك

الوجوه سواء، وقد يكون بعضها أفضل، فجاء في الخلف من يريد أن يجعل

اختياره لفضله، فجاء الآخر فعارضه في ذلك ونشأ من ذلك أهواء مردية مضلة،

فقد يكون النوعان سواء عند الله ورسوله فترى كل طائفة طريقها أفضل، وتحب

من يوافقها على ذلك، وتعرض عمن يفعل ذلك الآخر، فيفضلون ما سوى الله يبنه، ويسوون ما فضل الله بينه، وهذا باب من أبواب التفرق والاختلاف الذي دخل

على الأمة، وقد نهى عنه الكتاب والسنة وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -

عن عين هذا الاختلاف في الحديث الصحيح - كما قررت مثل ذلك في (الصراط

المستقيم - حيث قال: (اقرأوا كما علمتم ... ) [١] .

بعد ذلك نسأل أنفسنا عن العلاج أو كيفية القفز فوق تلك الهوة التي هي من

صنع أيدينا؟ ! نرجع لابن تيمية وهو يصف العلاج بعد تشخيصه الداء قائلاً:

(والصواب أن يقال: التنوع في ذلك متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن هذا

اتباعاً للسنة والجماعة، وإحياء لسنة وجمعها بين قلوب الأمة، وأخذا بما في كل

واحد من الخاصة أفضل من المداومة على نوع معين، لم يداوم عليه النبي

لوجوه..) ، ثم ذكر تلك الوجوه منها على سبيل ما يهمنا في هذه السطور قوله: (أن ذلك - أي التنوع وعدم المداومة على نوع واحد من العبادات - -يوجب اجتماع القلوب وائتلافها وزوال كثير من التفرق والاختلاف والأهواء بينها..) [٢] .

أما تلميذه ابن القيم -رحمه الله- فقد ذكر أصناف الناس ومذاهبهم في أى

العبادة أفضل وأنفع؟ فذكر الصنف الرابع قائلاً: (.. والصنف الرابع قالوا: إن

أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت

ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد، الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من

صلاه الليل وصلاة النهار بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن..) ، ثم قال: (.. وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق والأصناف من قبلهم أهل التعبد

المقيد..) [٣] .

ولكن قد يقال أن هذا في العبادات ويصعب تطبيقه في مجالات الدعوة والعمل

الإسلامي ولا سيما ونحن في عصر التخصص.

في هذه الحالة لا مانع من التخصص في أحد مجالات الدعوة مع مراعاة

قضيه الإتيان بالواجب العيني مع التخصص، فلا بد مثلاً من الإتيان بالواجب من

العلم والواجب من الزهد وهكذا. يقول ابن تيمية -رحمه الله-: (.. وأما قوله: ما

الأسباب التي يقوى بها الإيمان إلى أن يكمل على ترتيبها؟ هل يبدأ بالزهد؟ أو

العلم؟ أو بالعبادة؟ أم يجمع بين ذلك على حساب طاقته؟ فيقال له لا بد من

الإيمان الواجب والعبادة الواجبة والزهد الواجب ثم الناس يتفاضلون في الإيمان:

كتفاضلهم في شعبه وكل إنسان يطب ما يمكنه طلبه ويقدم ما يقدر على تقديمه من

الفاضل والناس يتفاضلون في هذا الباب فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد

ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه، ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما

فالمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير كما قال تعالى: [فَاتَّقُوا اللَّهَ

مَا اسْتَطَعْتُمْ..] وإذا ازدحمت شعب الإيمان قدم ما كان أرضى لله وهو عليه أقدر، فقد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل ويحصل له أفضل مما يحصل من

الفاضل، فالأفضل لهذا أن يطلب ما هو أنفع له، وهو في حقه أفضل ولا يطلب ما

هو أفضل مطلقاً، إذا كان متعذراً في حقه أو متعسراً يفوته ما هو أفضل له

وأنفع) [٤] .

ويحكى أن العمري العابد كتب إلى الإمام المالك يحضه على الانفراد ويرغبه

عن الاجتماع إليه في العلم، فكتب إليه مالك: إن الله تعالى قسم الأعمال كما قسم

الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم وآخر فتح له في

الصدقة ولم يفتح له في الصيام وآخر في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة، ونشر

العلم وتعليمه من أشرف أعمال البر، وقد رضيت بما فتح الله -عز وجل- فيه من

ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر،

ويجب على كل منا أن يرضى بما قسم له والسلام.

ولا بد من الحذر من التقليد والتبعية وزج النفس في مجالات ليست من أهلها

كمن يزج نفسه في تأليف الكتب والرسائل والكتيبات الصغيرة، أو في التحقيق أو

في نحو ذلك فلا بد من مراعاة القدرات الشخصية ومراعاة التمييز المثمر من غير

شذوذ أو طلب شهرة وقد عرف سلف هذه الأمة هذا التمييز المثمر بقول الذهبي -

رحمه الله-: الكتابة مسلمة لابن البواب، كما أقرأ الأمة أبي بن كعب، وأقضاهم

علي، وأفرضهم زيد، وأعلمهم بالتأويل ابن عباس، وأمينهم أبو عبيدة، وعابرهم

محمد بن سيرين، وأصدقهم لهجة أبو ذر، وفقيه الأمة مالك، ومحدثهم أحمد بن

حنبل، ولغويهم أبو عبيدة، وشاعرهم أبو تمام، وعابدهم الفضيل، وحافظهم

سفيان الثوري، وأخباريهم الواقدي، وزاهدهم معروف الكرخي، ونحويهم سيبويه، وعروضيهم الخليل، وخطيبهم ابن نباتة، ومنشئهم القاضي الفاضل، وفارسهم

خالد بن الوليد رحمهم الله) [٥] .

فلا بد من مراعاة القدرات والإمكانيات الشخصية، مع عدم إهمال المجالات

الدعوية الأخرى وأن يكون في أصحاب تلك المجالات اتصالات وتعاون في جو

يسوده المحبة والإخلاص والانصاف، قال تعالى: [واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً

ولا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ

إخْوَاناً] [سورة آل عمران ١٠٣] ، وقال تعالى: [مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا

الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ

بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] ، [سورة الروم ٣١-٣٢] .


(١) الفتاوى ٢٤/ ٢٤٦ -٢٤٧.
(٢) الفتاوى ٢٤/٢٤٧-٢٤٨.
(٣) تهذيب مدارج السالكين ص ٧٠- ٧١.
(٤) الفتاوي ٧/٦٥١.
(٥) سير أعلام النبلاء ١٧/٣١٩.