للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

التجديد في الإسلام

[التجديد عند ابن تيمية]

(٧)

ولد ابن تيمية ونشأ في عصر يموج بالاضطراب السياسي والفكري، فقد

تعرض المسلمون لهجمات التتار المتوحشين الذين كانوا يزحفون زحف الموت

تسبقهم شائعات الرعب والخوف، فدمروا بغداد وقتلوا خليفتها، ثم زحفوا على

الشام حتى حاصروا دمشق، ولم يدر بخلد أحد أن النصر عليهم من الأمور الممكنة، فقد تغلغلت الهزيمة النفسية في أعماق المسلمين شعباً وولاة. كما سيطرت

الانحراف العقائدي المريع على الخاصة والعامة، فقد كاد الناس أن ينسوا مذهب

السلف الصالح، وانتشرت الصوفية المبتدعة بين صفوف الجماهير، وعرضت

العقيدة الإسلامية على طريقة علماء الكلام، وجمد الفقهاء على المذاهب وأوصدوا

باب الاجتهاد، وكانت العصبية المذهبية على أشدها، وفي المساجد الكبرى توضع

محاريب عدة، لكل مذهب محراب.

هذه الأوضاع العقدية الفقهية كانت مستقرة سائدة لا يفكر أحد في كسر مألوفها

والخروج عليها، لأن مصير من يخالف هذه الأوضاع معروف: يرميه العلماء عن

قوس واحدة، ويحاربونه في نفسه ورزقه، ويرفعون أمره إلى السلطان على أنه

خطر يهدد البلاد والعباد، وكان السلاطين في غالبهم جهلة لا يميزون بين حق

وباطل، وهكذا كان يضطهد المخلصون.

نشأ ابن تيمية في هذه البيئة، ودرس عيوبها، وعرف بما آتاه الله من عقل

واسع وشخصية فذة، كيف يصدع بكلمة الحق في هذا المجتمع، وكيف يرجع

بالناس إلى الجادة المستقيمة. وكيف يحارب الخرافة والفلسفة، بل وكيف يقود

الجماهير في عصر ضعف فيه شأن السلطة واستفحل خطر أعدائها.

بدأ الشيخ دروسه سنة ٦٨١ هـ وانتهت إليه رياسة المذهب الحنبلي وهو في

مقتبل شبابه، وكتب (الفتوى الحموية) في عقيدة السلف، وكانت أول عمل علمي

ينشر فيه عقائد السلف المخالفة لمألوف الناس، فثار عليه العلماء وحاكموه وحرموه

من التدريس، ولم يثنه هذا أو يفلُّ من عزيمته، بل ظل يناضل في جميع الميادين

بلا هوادة، ويختط لأهل السنة طريق الإصلاح فألف في الرد على الرافضة،

والفلاسفة، وعلماء الكلام، والصوفية، والنصارى، وغيرهم. وألّف في دراسة

العيوب والمشاكل الاجتماعية وتحليلها، وألّف في الفقه ودراسة الأحكام على مذهب

الإمام أحمد ثم ألّف فيه باعتباره مجتهداً لا يلتزم بمذهب.

ونستطيع أن نقول: إن ابن تيمية أحيا مدرسة الحديث والسنة في عصره،

ورفع شأنها واستطاع أن يجتذب إليها صفوة العلماء في عصره، ويكفي أن نذكر

من أساطين هذه المدرسة الذين تتلمذوا على يديه: ابن قيم الجوزية، والإمام الذهبي، وابن كثير، والإمام المزي، والإمام محمد بن عبد الهادي.. ثم من ساروا على

النهج من بعد.

وإذا كان المقصود بالتجديد هو إرجاع الدين غضاً طرياً بعد أن تراكمت عليه

البدع والانحرافات بشتى أشكالها وصورها فذهبت برونقه وبهائه، إذا كان المقصود

هذا، فإن هذا الوصف ينطبق تماماً على شيخ الإسلام ابن تيمية، فمع وجود علماء

كبار في عصره وقبل عصره يجمعون بين العلم والعمل، وربما وصلوا إلى درجة

الاجتهاد، ولكن لم يقوموا بدور التجديد بشكل عام، وهو إرجاع الناس إلى السنة

وإلى المنهج الصحيح الذي يمنعهم عن الانحراف، ومحاربة كل أنواع الانحراف،

بينما نجد ابن تيمية قام بالأعمال التالية:

١- نقد مناهج الفلاسفة والمتكلمين وحاربهم بنفس سلاحهم وأثبت أن عقائد

الإسلام لا تحتاج إليهم، وأن ما يسمونه الأدلة البرهانية والعقلية موجودة في الكتاب

والسنة، ولئن كانت طبقة الفلاسفة ومن يتأثر بهم هي طبقة محدودة في المجتمع

الإسلامي فإن المتكلمين ومن يتبعهم يمثلون تياراً كبيراً، ولفهم ابن تيمية للصلة

الوثيقة بين الأفكار وأثرها قام بالهجوم أيضاً على أتباع هذا المذهب الذي حاول أن

يكون وسطاً بين تيار الاعتزال وبين أهل السنة، وعرضوا الإسلام عرضاً جافاً،

وكان رأيهم في الإيمان والقضاء والقدر وغيرها من أمور العقيدة مما أثر في فهم

المسلمين لدينهم وبالتالي في التطبيق العملي لهذا الدين؛ وكان هذا من أعظم أعمال

ابن تيمية في الدفاع عن عقيدة أهل السنة وبيانها بجلاء ووضوح، وقد ألف في ذلك

كتابه الفذ (درء تعارض العقل والنقل) .

٢- نقد الفرق المنحرفة بأداة قوية وبيان ناصع كالجهمية والرافضة وغلاة

الصوفية وألف في ذلك (منهاج السنة النبوية) و (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء

الشيطان) .

كما رد على النصارى في كتابه القيم (الجواب الصحيح) الذي يعد من أعظم

ما كتب في الرد على النصارى.

وإذا كان العلماء السابقون لابن تيمية أو المعاصرون له، قد تفرغوا للعلم

ونشره، وألفوا في الحديث أو الفقه أو التفسير أو غير ذلك من العلوم الإسلامية فإننا

هنا بإزاء عالم يرى من واجبه إزالة ما تراكم من البدع والضلالات ورد الناس إلى

الكتاب والسنة ولذلك ألف في الموضوعات التي يرى أنها واجبة عليه لتحقيق هذا

الهدف، ولذلك لم يكتب تفسيراً كاملاً مع أن مادة التفسير كانت من أحب العلوم إلى

نفسه ولكنه يصرح أنه لا يريد أن يكرر ما كتب سابقاً ولذلك فسر سوراً معينة أو

آيات معينة.

٣- أحيا الاجتهاد، والرجوع إلى النصوص الشرعية، وتحكيم الدليل بقوله

وفعله، فلم يكتف بالهجوم على التقليد المتعصب فحسب، بل زاول الاجتهاد ورجح

في المسائل التي يبحثها ما يراه أسعد بالدليل غير مكترث لمخالفة رأي فلان أو فلان، ولذلك لا نجد في تلاميذه وأتباعه من رواد هذه المدرسة ما نجده عند غيرهم من

التعصب الممقوت وإن كانوا متبعين لمذهب معين كابن كثير والذهبي وغيرهما.

ومن هذا المنطلق ناقش القضايا المستجدة الحادثة التي توقف فيها العلماء

وأعطى فيها الرأي المدعم بالدليل.

ومن ذاك فتاويه المشهورة في (التتار) وقد كانت حالتهم وضعاً سياسياً طارئاً

على المسلمين، لأن المتأخرين منهم المعاصرين لابن تيمية أسلموا وكان في جيشهم

القاضي والمفتي ولكنهم يقاتلون المسلمين ويتحاكمون فيما بينهم إلى قانونهم الخاص

الذي وضعه لهم (جنكيز خان) وقد تحير العلماء فيهم ولكن ابن تيمية قال فيهم كلمة

الحق.

وإن المتتبع لأوضاع عصرنا اليوم يجد أن ابن تيمية بقي حياً في واقعنا

السياسي، بل هو كما قال عنه مالك بن نبي: «قدم الترسانة الفكرية التي استمدت

منها كل الحركات الإسلامية التي جاءت بعده» .

٤- زاول بنفسه القيادة الحقيقية للأمة، وكان جديراً بها، لمواهبه النادرة

العظيمة، واستجماعه لخصائص القائد، فكان يدافع عن مصالحها ضد المستغلين،

ويحفظ حقوقها ضد المنتهبين، ويدفع عنها كيد عدوها ما استطاع.

ولعل من أعظم المواقف موقفه مع التتار حيث كان يحرض الناس على قتالهم

ومنازلتهم، ويباشر القتال بنفسه، ويصدر الفتاوى التي تطمئن صدور الناس، بل

ذهب بنفسه إلى (قازان) التتري وأنّنبه وقال:

«إن أجدادك الوثنيين لم يجرؤوا على ما جرؤت عليه» وقازان لا يتكلم بل

يطلب منه الدعاء ويذهب الشيخ إلى مصر لمقابلة السلطان الناصر، ويكلمه كلاماً

شديداً فيقول له: «إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته، أقمنا له سلطاناً يحوطه

ويحميه» [١] .

وعلى الصعيد الداخلي كان ابن تيمية في جماعة من أصحابه الغيورين

يمارسون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعزير المفسدين ويحرض السلطان

على غزو بلاد النصيرية وتأديبدهم.

٥- إن مواقف الشيخ هذه سواء في العقيدة أو الفقه أو غيرها لم يخترع لها

أصولاً جديدة وإنما استطاع أن يُعمِل أصول السلف ويطبقها على القضايا المستجدة

فوسع دائرة المنهج ليستوعب تلك القضايا مع بقائه مربوطاً بأصول منهج السلف

الأولى، وهذا هو التجديد عند ابن تيمية -رحمه الله- وجزاه الله خيراً عن الإسلام

والمسلمين.


(١) البداية والنهاية ١٤ / ١٤.