للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

مأساة البلقان

الأقوياء يكسبون والضعفاء يُسحلون

د. عبد الله عمر سلطان

(النظام العالمي الجديد يواجه صعوبات جمة يتمثل أخطرها في رفع اللجام ...

عن قوى وأفكار واتجاهات ذات جذور عميقة وجدت نفسها في معزل عن ظلال ...

الحرب الباردة التي أوقفت من انفجارها لنصف قرن فقط) ، هكذا خلصت المجلة

الأمريكية الرصينة (فورين أفيرز) في عددها الأخير وهي تستشرف المستقبل ...

القادم وتتوقع ملامحه ومعالمه ... وتمضي لتقول: (صحيح أن هناك قوى دولية ...

تطمح للزعامة والقيادة كالتجمع الأوربي واليابان وصحيح أن هناك أفكاراً متداولة

تطرح تحدياً مقبلاً كالأصولية الإسلامية؛ إلا أن أكثر المعضلات المطروحة للنقاش

الآن هي ثورة الأقليات العرقية والحرب العنصرية التي تشهد البشرية أعنفها اليوم

في يوغسلافيا) .. هذه الحرب التي تحاول المجلة الأمريكية النخبوية أن تخلط

الجانب العنصري فيها بالعمق الديني المعروف هي مادة دسمة ومهمة لكثير من

الدراسات والتعليقات التي تناقش مأساة المسلمين في دولة البوسنة والهرسك

خصوصاً ودول البلقان عموماً..

ومنذ اليوم الأول بداء واضحاً أن المنطقة البلقانية ستعود إلى سابق شهرتها

وسمعتها لتحتل مرتبة لبنان في بشاعة التعصب والحقد وما يجره من حرب أهلية.

والبلقان تمثل بؤرة التهاب دائمة، لأنها منطقة تماس بين قوى دولية متعددة تقتات

على التباين الديني والعنصري الموجود في المنطقة. وفي نفس الآن تسعى هذه

القوى الكبرى لتغذية الصراع والإفادة منه.

ولكون المنطقة البلقانية مثالية لصراع داخلي/دولي منذ القدم فإن الحرب

الباردة قد رفعت الستار عن مشهد جديد من الحرب المستعرة في منطقة البلقان منذ

قرون.. ولا بد هنا من استحضار النقاط التالية عند تحليل الوضع الراهن:

* إن منطقة البلقان هي خط الالتقاء الفاصل بين ثلاث عوالم دينية وقوى

كبيرة في الماضي، وأن تاريخها وواقعها صُبغ بدرجة أو بأخرى بين التفاعل

والخصام بين هذه القوى المتنافرة، فالقوة الأولى هم المسلمون في البلقان والذين

نجحت عوامل التفكك والضمور الذي انتاب الدولة العثمانية في عهودها الأخيرة في

تفريقهم وإضعافهم من خلال إقامة كيانات هشة هدفها الرئيسي تشتيت التواجد المسلم

في البلقان ومنعه من الحصول على حقوق المسلمين فضلاً عن وصولهم إلى الحكم،

وقد أضاف الحكم الشيوعي جراحاً جديدة إلى واقع المسلمين هناك حيث ظن

المضطهدون أن سيادة المبادئ الماركسية كفيل بانهاء التسلط العرقي والمذهبي عن

كواهلهم، إلا أن الحقيقة هي أن القوى الأخرى استمرت في إضعاف المسلمين من

وراء اللافتة الحمراء الشيوعية، أما القوة الأخرى فهم الأرثوذكس الذين يمثل

الصرب سوادهم الأعظم وقد دعموا من روسيا القيصرية في السابق كما نصرتهم

اليونان التي تدين بنفس المذهب، وقد كان لهم دور كبير في صد الفتح الإسلامي

المتجه لأوربا في القرون المتأخرة حيث اكتسبوا خبرة عسكرية كبيرة ورصيداً هائلاً

من الحقد ضد المسلمين، كما أنهم تقاضوا ثمن الانتصار على الدولة العثمانية من

خلال سيطرتهم على دول البلقان، واليوم تعود نفس التحالفات القديمة بعد انهيار

الشيوعية، حيث تحتضن موسكو الأرثوذكسية أبناءها في البلقان وكذلك تفعل

أثينا.. أما الكاثوليك المتركزين في شمال البلقان (كرواتيا وسلوفينيا) والأقليات المتفرعة عنهم فإنهم امتداد للشمال الأوربي المسيطر على الساحة الدولية للقرون الخمسة المنصرمة ولا سيما أن تحالفهم مع النمسا وألمانيا اليوم يضرب بجذوره إلى فترة تاريخية بعيدة.

* إن المنطقة البلقانية لا تمثل في حساب المصالح الأمريكية اليوم مناطق

اقتصادية أو سياسية استراتيجية بحد ذاتها، لكن الرصيد التاريخي المتشابك وارتفاع

الحديث عن الزحف الأخضر الإسلامي القادم في الأوساط الغربية يؤدي إلى ... ...

تداعيات كثيرة لا سيما بالنسبة للدول الأوربية التي رأت بعينها خيول وكتائب ...

المسلمين تعبر البلقان قبل ثلاثة قرون لتحاصر (فيينا) خاصرة ورمز الحضارة

الأوربية، ومن هنا فإن اهتمام الدول الأوربية بالقضية له ما يبرره في حين أن

ارتخاء الولايات المتحدة في التعامل مع المشكلة ينطلق من بعد يوغسلافيا عن

المصالح الأمريكية المباشرة وما تمثله المنطقة للحليفات الأوربيات من أهمية، وإن

كانت أمريكا تسعى إلى توطيد دعائم نظامها الجديد في العالم حتى في مناطق النفوذ

التقليدية للحليفات الأوربيات.

* ونتيجة لثقل وأهمية اللاعبين الأوربيين لا سيما المانيا فإن حلفاءهم من

الكاثوليك كانوا الأقوى والأسرع إلى إقامة كياناتهم الخاصة في وجه التسلط الصربي

الذي استولى على مقاليد يوغسلافيا المتهالكة لا سيما أن الصرب قد نهبوا أموال

الحكومة الاتحادية وقبضوا على مقاليد الجيش الاتحادي مما فجر مشاريعهم التوسعية

باتجاه القوميات والأديان الأخرى.. ولكن نقول إن الكاثوليك في سلوفينيا وكرواتيا

والبوسنة والهرسك خرجوا بأقل عدد من الخسائر في الحرب الأهلية لوقوف ألمانيا

وأوربا من خلفهم.. أما المسلمون فإن الواقع الأليم في العالم الإسلامي جعل من

السند الخارجي لهم عاملاً هامشياً حين وجد الصرب أن الوقت قد حان لتصفية

حسابهم مع (الغزاة) الذين حطموا مملكة الأمير الصربي قبل خمسة قرون. ...

* إن السيناريو القائم في البوسنة والهرسك مرشح للانتقال في كل مساحة

بلقانية يشعر فيها الصرب وأمثالهم أن ضربتهم القادمة في ربوعها لن تستثير ردة

فعل إسلامي أو دولي حاسم، فمناطق تواجد المسلمين في دويلات البلقان تبقى هدفاً

متجدداً للتوسع خصوصاً إذا استمر الصمت الدولي والدعم المستتر للصرب من

روسيا واليونان وربما دويلات الاتحاد السابق التي تدين بالأرثوذكسية.. فالمعطيات

واحدة والمحصلات شبيهة لحد كبير..

* إن القوميتين الصربية والكرواتية ومنذ بداية هذا القرن تعاملت مع

المعطيات المحلية والإقليمية والدولية بصورة أفضل بكثير من المسلمين في البلقان،

وما كشفت عنه الأحداث الأخيرة من مذابح (وتنظيف) بشري للمسلمين على أيدي

الصرب وما تردد عن اتفاق كرواتيا عام ١٩٣٩.. يقول المفكر الصربي ميلوفان

جيلاس أحد مؤسسي الحركة الشيوعية في يوغسلافيا سابقاً ورفيق تيتو في حرب

التحرير: (إن كرواتيا وصربيا اليوم يعيدان تفاصيل أحداث ١٩٣٩ حينما توصل

قادة القوميتين إلى اتفاق تقسيم البوسنة وهم اليوم يحاولون إعادة سرقة البوسنة) ..

والحديث اليوم ينحصر في بشاعة أعمال الصرب أما الكروات فإن الإعلام الدولي

لا يكاد يتطرق لمشروعه القومي المتعصب البتة، جيلاس مرة أخرى: (الكروات

لا يخفون أطماعهم في المناطق الغربية والجنوبية من البوسنة وهم يحملون تعصباً

قومياً زاده التعصب الديني وشعورهم بحماية أوربا) .. أما المسلمون اليوم فهم

بشهادة أعدائهم: (إذا أخذنا المسلمين بشكل عام وعلي عزت بيكوفيش كزعيم فهم

لم يبدأو الصدام المسلح وقد حاولوا تجنبه منذ البداية) .

* بالرغم من كل تلك المعطيات البلقانية كان العالم يترقب من الذين تحدثوا

عن (عالم يسوده الأمن والسلام) و (نظام لا يسمح للقوي أن يفرض سيطرته على ... الضعيف) و (مفهوم لا يفرق بين دولة كبيرة وأخرى صغيرة أمام الشرعية الدولية

(أن ينقلوا هذه القوالب البلاغية إلى عالم الواقع.. كان هذا الترقب في محله والمذبحة ... الجماعية لمسلمي البوسنة على قدم وساق، حتى أصبحت صور الجثث

البشعة ورائحة الموت والتدمير والهلاك مساوية في الإثارة لأخبار الطقس أو كأس

الأمم الأوربية..! ! هذه الأمم الأوربية التي هبت قبل أشهر في وجه الصرب

كيف تعاملت مع مأساة المسلمين في البلقان؟ ؟

وهذه الشعارات الأمريكية المبشرة بنظام عالمي جديد كيف ترجمت إلى واقع

خلال مسرحية الحقد الصربي؟ ؟ .