للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

منتدى القراء

الحكمة ما هي! ؟

د. محمد عابد باخطمه

من أسباب اختلاط المفاهيم أنه اختلط مفهوم الشجاعة بالتهور ومفهوم الجبن

بالتأني، الكرام بالتبذير، المداهنة والمجاملة والصراحة والوقاحة.. وسأتكلم هنا

عن مفهوم الحكمة.

فقد أصبح مفهوم الحكمة في أكثر الأحيان هو اتباع أسلوب اللين من كل أمر

ومسألة وعدم الاعتراض قولاً أو عملاً على أي خطأ، بل كثيراً ما يصبح هذا

المفهوم هو سايده الخطأ وهذا يعني أن الحكيم هو من يرضي الجميع. ولشرح

المعنى عملياً لنفترض أن حقيراً ما تهجم على صحابة -رضى الله عنهم- أو حشر

أنفه في أمر من الأمور الخلافية في الشريعة، وهو لا يفقه شيئاً فإن الحكمة - كما

يفهمها البعض - تقتضي عدم فتح جبهة معه حتى لا يظن أننا كمسلمين لا نقبل

الخلاف في الرأي.

والحكمة بالمفهوم الاصطلاحي العدل والعلم كما جاء في القاموس المحيط، أي

أن العرب لم تعرف الحكمة بمعنى اللين، ومجاراة الأمر الواقع.

أما الحكمة في القرآن الكريم فقد جاء في سورة [ص ٢٠] ، قال تعالى عن

داود [وشَدَدْنَا مُلْكَهُ وآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وفَصْلَ الخِطَابِ] قال ابن كثير في تفسير هذه

الآية: قال مجاهد في معنى قوله تعالى آتيناه الحكمة يعني الفهم والعقل والفطنة.

وفي سورة النحل [١٢٥] : [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ

وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ

بِالْمُهْتَدِين] . قال ابن كثير: «يقول تعالى آمراً رسوله أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة، قال ابن جرير: وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة والموعظة الحسنة أي بما فيه من الزواجر والوقائع، ذكرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى» وأقول إن الآية أمرت بالدعوة ولم تأمر بالسكوت ولم تقل أرضهم بالتي هي أحسن، بل قالت: جادلهم بالتي هي أحسن، أي إثبات مبدأ المقارعة بالحجة بالأسلوب المنهجي الرزين البعيد عن التشنج.

الحكمة من السنة النبوية:

عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا حسد إلا

من اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته من الحق وآخر آتاه الله حكمة فهو

يقضي بها ويعلمها) . قال ابن حجر: إن المراد بالحكمة القرآن كما في حديث ابن عمر، أو أعم من ذلك أو ضابطها ما منع من الجهل وزجر عن القبح. ومن كتاب

فضائل الصحابة، عن ابن عباس قال: «ضمنى النبي - صلى الله عليه وسلم -

إلى صدره وقال: اللهم علمه الحكمة» .

ومن كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر، من حديث ابن كعب أن رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من الشعر كلمة» ، أي قولاً صادقاً

مطابقاً للحق وقيل أصل الحكمة المنع فالمعنى أن من الشعر كلاماً نافعاً يمنع من

السفه.

أمثلة من الحكماء:

١- الرسول - صلى الله عليه وسلم -:

كان - صلى الله عليه وسلم - أحكم البشر وهو أرحمهم. انظر إليه وهو يأمر

من نقر صلاته أن يعيدها مرة واثنتين، وانظر إليه يترك الحسين يرتقي ظهره في

الصلاة ويزجره عن الأكل من تمر الصدقة، انظر إليه يوقع صلح الحديبية، ثم

انظر إليه يحل دم من هجا المسلمين ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة، انظر إليه وهو

يقول: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، إذن فالحكمة لين في مكان

اللين وشدة في موضع الشدة.

وبعد، لعله أصبح من الواضح أن الحكمة لا تعني اللين في كل شيء وأن

مجرد استخدام الشدة لا يعني الخروج عن الحكمة. الحكمة هي وضع الأمر في

موضعه، والشدة لا تعني الضرب والقتل وسفك الدماء، الشدة هي الثبات على

الحق والدفاع عنه باللسان أو بالقلم أو حتى بالسيف إن لزم الأمر، والوقح الذي

يتطاول على أحكام الشريعة عندما لا يستجيب للنصح لا بد أن يوقف عند حده،

والحكمة ليست السكوت عليه ناهيك عن تشجيعه والتماس الأعذار له.

إن الضابط هو خشية الله -عز وجل-، فلا نستخدم الشدة في موضع اللين

فننفر، أو نستخدم اللين في موضع الشدة فيطغى الظالم.