للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

خواطر في الدعوة

في النقد الذاتي

محمد العبدة

من تأملات ابن خلدون في طبيعة الاجتماع الإنساني أن بعض الشعوب عندما

تجاور شعوباً أخرى فإنها تسرق من طباعها، وتتسرب إليها عاداتها وتقاليدها،

ويضرب ابن خلدون مثلاً على ذلك أن بني إسرائيل عندما خرجوا من مصر

وسكنوا بلاد الشام كانت هذه البلاد تعج بشتى القبائل والأقوام المختلفة المشارب

والمذاهب، ومع طول المجاورة تأثر بنو إسرائيل بهذا التفرق، ودبّ فيهم الخلاف

وضعفوا حتى جاءهم من أزالهم عن ملكهم.

هذه ملاحظة ذكية من مؤرخنا الاجتماعي تدل على تعمقه في دراسة أحوال

المجتمعات أو التجمعات، والمتأمل لحال الدعوة الإسلامية في هذا العصر يجد مثل

هذا التسرب قد دخل إليها من المحيط والبيئة التي تعيش فيها، سواء كانت بيئة

الدول الوطنية أو الأحزاب، وبيئة المجتمع المتخلف حضارياً والذي تبرز فيه

الدعوات الإقليمية أو القبلية، ففي الأحزاب والدول التي نعيش بين ظهرانيها يتسلق

إلى المناصب المداهنون والمتملقون الذين يتقنون فن الكلام، ويبعد أصحاب الرأي

الاستقلالي وأصحاب الشخصية القوية، وكأنهم يسيرون على القاعدة الاقتصادية

(العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة) ويقع أحياناً مثل هذا في صفوف الدعوة.

ومن سنن الزعيم السياسي أن يكون من دونه شخصاً ضعيفاً حتى يستطيع

التصرف ولا يبرز أحد بجانبه، وتجد مثل هذا في الدعوات. وتمارس الدول

ضغوطاً اقتصادية على أصحاب الفكر والدعوة، سواء كان ذلك بالمنع أو العطاء،

وتعتبر هذا من المحافظة على كيانها، وتجد من بعض الفصائل الإسلامية من يفعل

مثل ذلك، ومن الوزراء من يجعل وزارته مزرعة لأقاربه وأصدقائه وأهل بلده،

ويقع مثل هذا أحياناً فيقرب أحدهم لصلة الصداقة أو القرابة، كل هذه السلبيات

موجودة، ولكنها داء خفي لا ينتبه له، وهو من عوامل فصم عرى الوحدة، وزرع

الإحن والبغضاء، وإبعاد الكفاءات، فهل تعالج هذه الأمور قبل استفحالها وقبل أن

تقضي على ما تبقى من حيوية الدعوة.

نحن لا ننكر أثر البيئة، ولكن المراجعة المستمرة للأخطاء وللأسباب المعيقة

للتقدم، والتعمق في فهم بعض الظواهر السلبية؛ كل هذا كفيل بأن يخفف كثيراً من

أثر البيئة. إن ابن خلدون يريد أن يقول: إن هذا من حتميات التجمع البشري،

ولا أعتقد ذلك.