للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

جولة ثانية

في الهجوم على العمالقة

- ١ -

محمد عبد الله آل شاكر

أصبحت المختصرات الماسخة للأصول المطولات من تراثنا كثيرة كثرة

تستلفت النظر وتدعو للوقوف عندها. وأصل فكرة الاختصار هذه، وواقعها عند

أدعياء التيسير والتهذيب اليوم؛ محل نظر.

ويطول بنا الحديث لو رحنا نستقصي آثارها ومظاهرها «فحسبنا - إذن -

أن نشير إلى دراسة ممتعة في هذا، قدمها الشيخ عثمان عبد القار صافي، من

طرابلس الشام، بعنوان: (أخطار على المراجع العلمية لأئمة السلف) (طبع دار

الفاروق بالطائف) وهي دراسة تمهيدية تهدف إلى المحافظة على التراث العلمي

الإسلامي والتحذير من العبث به.

وكان للشيخ عثمان فضل السبق والريادة في ذلك، أقام كتابه هذا على دراسة

لبادرة الشيخ محمد علي الصابوني في كتابه» مختصر تفسير ابن كثير «

و» صفوة التفاسير «، وهي تصدق أيضاً على ما أصدره الشيخ بعد ذلك من

مختصرات، مثل» مختصر تفسير الطبري «و» مختصر روح البيان «

و» مختصر الأذكار «.. وكأنه تخصص في السلخ والمسخ والاختصار.

ومراجعة مختصر ابن كثير تقدم دليلاً على ذلك، ولديّ الكثير من الأمثلة

جمعتها عندما كنت أقوم بتدريس هذا الكتاب في بعض المدارس الشرعية، وكان

مقرراً في برامجها!

-٢-

وأما العمل الذي لا أستطيع أن أجد له بابا أضعه فيه، ولا أعرف له وصفاً

جامعاً يناسبه أو يجمع كل ما ينبغي أن يقال فيه، فهو هذا العمل الجديد في كتاب

» رياض الصالحين «للإمام النووي -رحمه الله-، وهو بطبيعته المقصودة هذه قد أوفى على الغاية في جمال الإخراج، وجودة الطباعة، ورواء المنظر.

ولكن هذا الكتاب الذي كتب الله له القبول بين الناس منذ ثمانية قرون، هي ...

عمره منذ تأليفه، صدرت طبعته الجديدة عن (دار طيبة) بمكة المكرمة

و (المكتبة الإسلامية) في عمان بالأردن، (ومن حق الأخيرة أن تُقَدَّم لعلة يعرفها من يقرأ المقدمة) .» حققه وقدم له وهذبه وخرجه: حسان عبد المنَّان «و» راجع تخريجه والحكم على أحاديثه: شعيب الأرنؤوط «الطبعة الأولى ١٤١٢ هـ.

وآمل من القارئ الكريم أن يتابع معي هذه العبارات التي تتوسط غلاف

الكتاب:» تمتاز هذه الطبعة بضبط نصوصها، وتهذيبها، وتخريجها، والاقتصار

فيها على الصحيح، مع بيان الضعيف منها في فصل خاص، وترتيب أحاديثها في

الأبواب المناسبة لها، ووضع عناوين فرعية لها، وشرح غريبها، وما أشكل

منها «. (انتهى)

هذه ثماني مميزات لهذه الطبعة يمنّ بها علينا الشيخ» عبد المنان «، ولن

نعدو الصواب إذا قسمناها إلى قسمين، أحدهما: كذب، والآخر: جريمة واعتداء

على الإمام النووي ومسخ لكتابه، وإليك البيان:

أما» ضبط النصوص، وتخريجها، وشرح غريبها، وما أشكل منها «

فليس هذا ميزة خاصة بهذه الطبعة، فقد سبق لهذه الميزات طبعات كثيرة - مجتمعة

أو متفرقة - كتلك التي حققها وفهرسها وضبط وشرحها الدكتور صبحي الصالح

(رحمه الله) ، وكذلك طبعة الأرنؤوط، والدقّاق.. وغيرهم. وقد ذكر المحقق عدداً

منها في مقدمته.

وأما» تهذيب نصوصها «- ونصوص الكتاب كلها آيات وأحاديث - فلست

أدري والله - ما الذي يحتاج إلى» التهذيب «، أهذه النصوص الكريمة أم الذي قام

بتهذيبها نفسه؟ وما أدري - وما أخال عاقلاً يدري - من الذي أعطى هذا الحق

لصاحبنا المحقق المهذب أن يقوم بترتيب أحاديث الكتاب في الأبواب المناسبة لها

(بزعمه، وكأن النووي -رحمه الله- لم يدرس أصول الترتيب والتأليف على

المحقق! كان ينبغي أن يتعلم منه قبل أن يُخْلَق!) ، والاقتصار على الأحاديث

الصحيحة كذلك، مع بيان الضعيف منها في فصل خاص، وهو يطبع الكتاب

باسمه المعروف وباسم مؤلفه! وأنا أستحلف الأخ المحقق، فأقول له: بربك الذي

خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك، قل لي: هل هذا هو» رياض

الصالحين «نفسه بنصه وفصه، كما وضعه المؤلف؟

وأقسم يمينا غير حانث: أنه ليس هو! ! فَلِمَ هذا التزوير والعبث والافتئات؟

وحرام على من يشتغل بعلوم السنة وتحقيق أحاديثها أن يكون هذا شأنه مع

نصوصها وكتبها وعلمائها.

ثم نأتي إلى قضية الأحاديث الضعيفة تلك التي حذفها من الأصل ورمى بها

إلى الملحق بذيل الكتاب في فصل خاص، والتي يهوّل بها أغيلمة التحقيق

والمتاجرون برياض الصالحين وغيره؛ يقول النووي -رحمه الله-:» فرأيت أن

أجمع مختصراً من الأحاديث الصحيحة.. وألتزم فيه ألا أذكر إلا حديثاً صحيحاً من

الواضحات، مضافاً إلى الكتب الصحيحة والمشهورات.. «أفلا يمكن أن نقول:

إن ما رآه المحقق الفاضل ضعيفاً، أو حكم عليه بالضعف، هو صحيح بنظر

النووي على الأقل (بل بنظر البخاري ومسلم، فمن الأحاديث التي ضعفها المحقق

عدد من أحاديث الشيخين!) فيكون ذلك من باب اختلاف العلماء في التصحيح

والتضعيف (وقد دخل صاحبنا في زمرتهم) ؟ !

أَوَ لا يمكن أن نخفف من حدة الأمر والتهويل به؛ بأن هذا كله في أبواب

الترغيب والترهيب ونحوها، التي يتساهل العلماء في الرواية فيها بشروطهم،

حيث يقول الإمام أحمد وغيره: إذا روينا في الترغيب تساهلنا، وإذا روينا في

الأحكام أردنا هكذا - وقبض يده -؟ وإلا فهل كان البخاري عاجزاً عن انتقاء

أحاديث» الأدب المفرد «مثلاً من الصحاح بشرطه المعروف؟ وكذلك الذهبي في

كتابه» الكبائر «، والنووي في» الرياض «، بحيث لا يخالفهم الشيخ عبد المنان

في تصحيحها؟

أما هذا الترتيب لأحاديث الكتاب» في الأبواب المناسبة لها «- كما قال-

فهو تغيير يمسّ أصل الكتاب. وليس من حق المحقق أن يغير الكتاب بما يراه،

وإذا أراد ترتيباً معيناً فيمكن أن يكتب كتاباً يرتبه كما يشاء. والغريب أنه يفعل

فعلته تلك، وهو الذي لازم شيخه الأرنؤوط في البحث والتحقيق ست سنوات في

مكتب التحقيق بمؤسسة الرسالة، عندما كان يحقق أمهات كتب الحديث والتراجم

(صحيح ابن حبان، العواصم والقواصم، شرح مشكل الآثار.. شرح الطحاوية..

سير أعلام النبلاء) فهل كان عمل مكتب التحقيق بإشراف الشيخ الأرنؤوط هو

السطو على كتب الأئمة وتغيير ترتيبها؟ ولست أدري كيف فات هذا العمل في

الترتيب كلَّ من قام بتحقيق الكتاب وطبعه قبل الشيخ عبد المنَّان؟ لعل فيهم من لا

يعرف أهمية هذا العمل وخطورة الأحاديث الضعيفة؟ فماذا نقول إذن عن الشيخ

الألباني؟ !

فإذا غادرنا صفحة الغلاف إلى المقدمة نجد المحقق يقول معدَّداً ما امتاز به

عمله، فيذكر الأمر الأول، وهو:» تهذيب الكتاب واختصاره في صورة لا تخل

بمقصود الكتاب، بل تزيده دقة وفائدة (والحمد لله على التواضع والإنصاف، فقد

أشار إلى أن في الكتاب دقة وفائدة، ولكنهما بحاجة إلى زيادة) ويسهل تناوله أكثر

بين الناس، دون إنقاص فائدة من فوائده، وكانت الغاية من هذا التهذيب أن ينال

الكتاب بأقرب الصور، ويقرأ دون ملل في وقت قصير.. «.

أما أولاً: فإن كلام المحقق صريح في أنه اختصر الكتاب. فليكن إذن عنوان

المطبوع» مختصر رياض.. «وإلا فكيف ينسب للنووي كتاباً لم يضعه بهذه

الصورة؟

وثانياً: هذا» التهذيب «الذي يدندن حوله، فمرة أخرى أسائل القراء الكرام: من الذي يحتاج فعلاً إلى تهذيب (بل إلى تعزير وتأديب) ..؟

والتطاول على النووي - ثالثاً - صريح في تلك العبارة، وفي غيرها

صراحة أكثر، لأن مفهوم كلام صاحبنا أن الكتاب كان بحاجة إلى زيادة» دقة

وفائدة «فجاء التهذيب والاختصار تحقيقاً لذلك. ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه.

وما إخال إنساناً سوياً، خلقه الله ووهبه عقلاً، يشكو صعوبة تناول كتاب

النووي، حتى جاء صاحبنا ليسِّهل له ذلك بالتهذيب كيما يناله بأقرب الطرق (حتى

ولو كانت مشروعة) . والغريب حقاً: أنه يفعل ذلك» ليقرأ الكتاب دون مللٍ في

وقت قصير «مع أن صفحاته الستمائة تقريباً تعادل حجم الأصل، ومن ذا الذي

سمعتموه - يا معشر القراء العقلاء - يشكو من طول الكتاب ومن الملل في قراءته؟

ورابعاً: زعم المحقق أنه اختصر الكتاب ليسهل تناوله» دون إنقاص فائدة

من فوائده «كيف يصح هذا، وهو الذي كتب في بيان عمله متبججاً أنه: حذف

الآيات المتكررة المعنى واللفظ، وحذف المكرر من الحديث، وحذف تخريجات

النووي، وحذف بعض الأبواب، وبعض الأحاديث الصحيحة (!) .. حتى بلغ

الحذف أحد عشر بنداً. فهل كان هذا المحذوف لا يخلّ بفائدة من فوائد الكتاب؟

وهل كان ذلك كله حشواً، فجاء هو لينزه الكتاب عنه؟ ولست أدري ما الذي تركه

للمحققين من بعده ليحذفوه في طبعات أخرى؟

ثم يبلغ التطاول حداً كبيراً يتجاوز السنة ويصل إلى القرآن الكريم، فهو

يحذف» الآيات المتكررة المعنى واللفظ إن كانت في باب واحد «. فما أدري -

والله - ماذا يقول علماؤنا في هذا؟ أين يجدون الآيات الكريمة المتكررة لفظاً

ومعنىً؟

وإن كنا قد فهمنا غرض المحقق من حذف الأحاديث الضعيفة، فكيف نفهم

غرضه من» حذف بعض الأحاديث الصحيحة من الكتاب إذا كانت هذه الأحاديث

مما ذَكَرْتُه (أي المحقق) في الباب نفسه في الحاشية «. فهل أصبح من مقاصد

الشريعة وغايات التحقيق أن نحذف من المتن لأجل الحاشية؟ فننزل بالأصل مكاناً

ومكانة، ونرتفع بالحاشية مكانة، فينقلب الأمر رأساً على عقب؟ !

-٣-

فإذا وصلنا إلى البند الثاني من الميزات التي امتازت بها طبعة صاحبنا وجدناه

» بيان الأحاديث الضعيفة في الكتاب «كيف يكون هذا ميزة له، وهو يكتب بخط

يده» أن كثيراً من الطبعات أشارت إلى درجات الأحاديث صحة وضعفاً، وكان

أفضلها نسخة أستاذنا (أي أستاذه هو) المحدث شعيب الأرناؤوط، ونسخة الشيخ

المحدث محمد ناصر الدين الألباني، ونسخة الدكتور فاروق حمادة «؟ (وبالمناسبة

هذه طبعات لهم وليست نسخاً لهم) .

ولعل السبب في قوله ذاك: أنه - كما قال عنهم -:» قد فاتهم من بعض

الأحاديث الضعيفة فحسَّنوها أو صححوها..) فجاء هو ليستدرك عليهم بتواضعه

وأدبه الجم، ويلتمس لهم العذر في أنهم اعتمدوا «في الحكم على رواة تلك

الأحاديث على كتاب (التقريب) للحافظ ابن حجر (رحم الله ابن حجر، ماذا كان

سيفعل لو علم أن جيلاً قادماً سيقول في كتابه ما قال صاحبنا؟ لعله كان يسجر

التنور بأوراق كتابه ويكفي الناس همَّ النقد والتعب) . والكتاب كما لا يخفى على ذي

بصيرة قد جانب الإصابة في الحكم على عدد لا بأس به من رجاله، ووقع في

أخطاء واضحة.. (والنقط هذه من المحقق! !) وكان قد أنبهني إلى بعضها أستاذي

المحدث شعيب الأرناؤوط حفظه الله، فرسم لي الطريق وأفادني من علمه، ومشيت

في ركب البحث والتنقيب عنه حتى صار عندي منها الكثير، والنية متجهة إن شاء

الله لإكمال الشوط الذي بدأناه باشراف شيخنا ومعونته» .

وصاحبنا متواضع ومتثبت فيما يقول، فهو لا يلقي الكلام على عواهنه، ولا

يمنّ علينا فهو يقول: «.. وهذه الأحاديث التي ذكرتها فصَّلت القول فيها تفصيلاً

شافياً بإيجاز، مبيناً علَّتي في تضعيف الحديث» ، ولذا فهو لم يحذف هذه

الأحاديث الضعيفة من الكتاب، بل جعلها في فصل مستقل بآخره «ليأخذ منها

ويستفيد بها مَنْ لا يرى ضَعْفَ الأحاديث التي ذكرتُ (أي عبد المنان) لِعلم أصابه أو

شاهدٍ رآه يقّوي الحديث..» .

إذن، دَعْها في مكانها وأَرِحْ نفسك من عناء نقلها، وتغيير الكتاب، وتواضعْ

ثانية كما هي عادتك، فإن من القراء من لا يرى ضعفها فيستفيد منها في مكانها

وسياقها. ولا داعي للافتئات على النووي، ولا حاجة للعبث بكتابه وتقطيع أوصاله. (وبالمناسبة لشدة تواضعه، قد يميل إلى تضعيف حديث ضعّفه غيره أيضاً ولكنه

مع هذا المَيل لا يحذفه، ولا أدري لماذا خالف قاعدته؟) .

وبمناسبة التصحيح والتضعيف والتواضع: هل يتكرم المحقق الفاضل فيبين

لنا محل هذه الجملة من الإعراب عندما يقول: «وافقني عليه الشيخ الألباني»

والكل يعلم أن تحقيق الألباني على الأقل أسبق من تحقيقه هو بسنوات. فمن الذي

يوافق الآخر. ورحم الله أياماً كان الطلاب يوقرون أساتذتهم وشيوخهم ولا يتنفخون

عليهم! !

ومِنْ قبل ومن بعد: لِمَ هذا الازدراء والإهمال للعلماء السابقين الذين كان لهم

باع في التصحيح والتضعيف، ولهم مكانتهم، ولكلامهم وحكمهم وزن، لِمَ يعرض

عنهم صاحبنا، ويكتفي بموافقة شيخه له في تضعيفه للحديث أو حكمه عليه؟ حتى

تكررت هذه العبارة وكثرت كثرة ملفتة للنظر، فأصبحت ممجوجة. وإذا كان

فضيلة المحقق أميناً دقيقاً في عبارته حين يقول «وافقني الشيخ شعيب ترجيحاً» !

فلماذا لا يكون أميناً دقيقاً عند تحقيقه للكتاب، فيعبث به هذا العبث، ويخون الأمانة

ويجانب الدقة؟

ومما يتصل بالأمانة والدقة في التحقيق، ولكن صاحبنا يغفله، أنه يُدخِل

كلامه ضمن نصِّ الكتاب عند الإحالات الكثيرة عقب الأحاديث، كقوله: انظر

حديث كذا.. وحديث كذا.. بما قد يبلغ أسطراً عديدة، بل يتجاوز نصف الصفحة

بحرف صغير.

والنكتة البارعة الأخيرة، يطلقها صاحبنا فيقول في ص (٥٠٧) : «وحرصاً

مني على إتمام الفائدة للعامة والخاصة أذكر هنا في هذا الفصل الأحاديث الضعيفة

في كتاب» رياض الصالحين «وقد بلغت عندي أكثر من مائة، وعقبت بعد كل

حديث بدليل ضعفه مع تخريجه بإيجاز.

صحيح أن العامة أمثالي (حقيقة لا تواضعاً، وعلى الأقل في مجال التحقيق)

يستفيدون من ذلك، ولكن ما حاجة الخاصة - طبعاً من علماء الحديث والمحققين

منهم - ما حاجتهم لهذا الفضل؟ ومساكين كم فاتهم من علم وفوائد قبل أن يمنّ الأخ

» عبد المنان «بإخراج هذا الكتاب.. ولا حول ولا قوة إلا بالله؟