للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

محمد الشرفي

ومشروعه التخريبي في تونس

أ- محمد الشرفي رمز التخريب:

إن من إفرازات سياسة الطاغية بورقيبة التعليمية ظهور نخبة من المثقفين

العلمانيين المتغربين التي قبضت مقاليد التعليم الجامعي منذ انطلاقته في بداية

الستينات، ومن هؤلاء محمد الشرفي الذي كان متخصصاً في الدراسات الحقوقية،

ولكن السمة في أبحاثه معاداته المطلقة للثقافة والتشريع الإسلامي، حيث إنه كان

ينادي منذ الستينات (بإصلاحات تشريعية) تتعارض صراحة مع الأحكام الشرعية

الصريحة والمُحْكمة، مثل مناداته بالمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة،

بالإضافة إلى مناصرته إلى كل ما ينادي به بورقيبة في إطار مشروعه التغريبي

مثل (تحرير المرأة) والقضاء على الهوية العربية الإسلامية للبلاد التونسية، ...

وبذلك نلاحظ أنه لا اختلاف في الرأي والتصورات الفكرية بين الشرفي وبورقيبة

رغم المعارضة الظاهرية والشكلية التي أبداها الشرفي في عهد بورقيبة، بل إن من

مظاهر التطابق والتجانس الفكري بينهما تمسك كلاهما باللغة الفرنسية كلغة دراسة

وإدارة في البلاد وهو الوجه الثاني العملي للمشروع التغريبي. ذلك بعد أن أطيح

ببورقيبة في ١٩٨٧م تعالت الأصوات المنادية بالتعريب في التعليم والإدارة

ومختلف مناشط الحياة في البلاد، فكان من أول المعارضين لسياسة التعريب محمد

الشرفي من موقعه في ذلك الوقت كأستاذ محاضر في كلية الحقوق والعلوم السياسية

بتونس، حيث شكل مع فئة من الفرنكفونيين تياراً معارضاً لسياسة التعريب، ومن

هؤلاء عبد الفتاح عمر رئيس جامعة تونس حالياً، وقد حقق مشروع التعريب

خطوات إيجابية في الأشهر الأولى بعد الإطاحة بالطاغية بورقيبة قبل أن تحصل

الردة وتسقط البلاد بأيدي التيار العلماني نهائياً [*] ، فوقع تعريب برنامج المرحلة

الأولى لكلية الحقوق فكانت من المواقف المسجلة على الشرفي أنه امتنع عن إلقاء

المحاضرات باللغة العربية لشده تمسكه باللغة الفرنسية، وكرهه للغة العربية فتنادت

شراذم الفرنكفونيين وأسست كلية الحقوق بأربانة بضواحي العاصمة - والتي تقرر

أن تكون لغة الدراسة فيها هي الفرنسية.

وهكذا يظهر جلياً أن الشرفي هو رمز للتغريب والفرنكفونية والعلمانية بكل

أبعادها الخطيرة على البلاد والعباد، من اجتثاث البلاد من هويتها الإسلامية

والعربية والزج بها في متاهات الضياع والتبعية الثقافية للغرب عموماً ولفرنسا

خصوصاً.

ورغم المعارضة الشديدة التي أبداها بعض المثقفين والجامعيين لتولي الشرفي

وزارة التربية وصدور كتاب (لا أريدك وزيراً) الذي فضح حقيقة الشرفي التغريبية ...

واحترازات العديد من الأطراف فإن الشرفي تسلل إلى وزارة التربية شأنه شأن

شراذم اليسار التي تسللت كذلك إلى مواقع السلطة دون أي موافقة شعبية، بل في

تحد واضح لإرادة الشعب الرافض لهذه الطغمة العلمانية العميلة، التي أخذت على

عاتقها القيام بدور قذر قد لا يقل قذارة عن دور المبشرين المسيحيين الممهدين

لدخول الاستعمار للعديد من البلدان.

وتولى الشرفي الوزارة فكان البيان الضجة الذي وقعه الشيخ عبد الفتاح مورو

في أكتوبر ١٩٨٩م والذي دعا فيه إلى عدم الاستخفاف بقيم الإسلام وضرورة إقالة

الشرفي، ثم كانت حملة حتى بعض اليساريين والقوميين الذين يعون حقيقة الشرفي

ونادوا بضرورة الجلاء الثقافي كما حصل الجلاء الزراعي من قبل. ولكن الدعم

الكبير الذي كان يلقاه الشرفي خاصة من فرنسا التي تدخلت مباشرة بتعيينه حال

دون حصول أي تغيير في الوضع، بل إن الشرفي ركز قدميه في الوزارة وبدأ في

تنفيذ مشروعه التخريبي الذي أطلق عليه مشروع (إصلاح التعليم) . ...

٢- الأبعاد الحقيقية لمشروع (إصلاح التعليم) :

إن من المعلوم أن برامج التعليم ومناهجه التي سارت عليها الأجيال التونسية

طيلة عهد حكم الطاغية بورقيبة قد وضعها الفرنسي (ديباس) الذي كلفه بورقيبة

بوضع برامج التعليم منذ الستينات فأشار (ديباس) بإغلاق الجامعة الزيتونية بحجة

توحد المناهج التعليمية وبتركيز اللغة الفرنسية كلغة أساسية للتعليم سواء كان في

مجال العلوم الصحية أو العلوم الإنسانية، أما اللغة العربية فإنها تدرس كلغة ثانية

كغيرها من اللغات الأجنبية، وظل الأمر كذلك حتى سقط بورقيبة وتولى الشرفي

وزارة التربية.

ورغم هذا المنحى التغريبي الخالص في مناهج التعليم، لاحظت الأطراف

الفرنكفونية العلمانية أنه لم يحقق الأهداف المرجوة من اجتثاث هوية الأمة وتغريبها

بالكامل بل إن النتائج كانت عكسية إذ ظهرت التيارات التأصيلية الإسلامية

المناهضة لسياسة التغريب، ولعل الدور الذي قامت به الحركة الإسلامية في

مواجهة بورقيبة جعلت التيار التغريبي يأخذ على عاتقه مواصلة سياسة التغريب بل

تجديد وسائل هذه السياسة وإعطائها دفعاً جديداً لعلها تحد من المد الإسلامي المتنامي، وفي هذا الإطار يتنزل مشروع الشرفي لإصلاح التعليم فكان إطلاق شعارات:

* التفتح على الثقافات الأجنبية.

* وامتلاك لغة العلم والتكنولوجيا.

* وترسيخ التفكير النقدي.

* ونشر قيم التسامح والتآخي ونبذ التطرف والتعصب.

وغيرها من الشعارات البراقة التي هي في الحقيقة كلمات حق أريد بها باطل.

قال الله تعالى: [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ

البَوَارِ] [إبراهيم ٢٨] .

وإذا كان المجال لا يتسع للرد على هذه التوجهات فإنه لا بأس من التعريج

بسرعة على الخلفية الحقيقية لهذه الشعارات وما أريد بها من قبل أصحابها، أما

التفتح على الثقافات الأجنبية فالمقصود به أساساً الانفتاح اللا مشروط على ثقافة

الرجل الأبيض، والقبول بها دون احترازات أو تحفظ على أي جانب منهما رغم ما

تزخر به من نقائض ظهرت نتائجها الملموسة على الساحة الاجتماعية، وما أفرزته

من انتشار للجريمة والإدمان على المخدرات والأمراض الجنسية والنفسية، وتفكك

أسري وغير ذلك من الأخطار الاجتماعية التي تشكل تهديداً جدياً على المجتمعات

الغربية أكثر من تهديد الحروب الأهلية أو الكونية. ورغم ذلك فإن دعوة الشرفي

صريحة في التبشير بهذه الثقافة الداخلية، والتي بغض الطرف عن كل نقائصها

فإنها تبقى ذات خصوصية معينة لا تتفق إلا مع البيئة التي نشأت فيها.

أما امتلاك لغة العلم والتكنولوجيا فإن هذه الدعوة أريد لها بالأساس التمهيد إلى

إعادة تبوء اللغة الفرنسية المكانة التي كانت عليها في مطلع الستينات من ناحية،

ومن ناحية ثانية السعي إلى إعادة نشر وترسيخ القيم الغربية ذلك أن اللغة في علاقة

عضوية بالتفكير ولعل ما أشارت إليه جريدة الفجر عن الملاحظات حول بعض ما

ورد في الكتب الدراسية باللغة الفرنسية في بعض الفصول الدراسية خير دليل ومن

ذلك صدور خارطة فلسطين المحتلة في بعض الكتب تحت اسم (إسرائيل) دون أي إشارة إلى فلسطين أو ما ورد من نصوص للقراءة بالفرنسية وما فيها من ... وصف مشين للمسلمين وتسميتهم بمحمد بالنسبة للرجال وكل النساء بفاطمة وذلك من باب الاحتقار والاستخفاف بالمسلمين وغيرها من الأمثلة التي لا تحصى.

قال الله تعالى: [أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً

فِيهَا ذَلِكَ الخِزْيُ العَظِيمُ] [التوبة ٦٣] .

أما بالنسبة لترسيخ التفكير النقدي وروح التسامح ونبذ التطرف والتعصب فإن

المغزى من هذه الدعوة لا يخفى على أحد، فهي تهدف استباحة المقدسات والثوابت، وتشجيع مرضى القلوب على التعرض لها بالنقد والتجريح بدون علم وعن جهل

بل عن قصد ونية سيئة مبيتة، والتعرض لكل من يحاول الدفاع عن أصول الدين

وشرائعه ووصفه بالتطرف والتعصب وعدم القبول بالرأي المخالف، وهذا أمر

خطير وخطب جليل لما يؤدي إليه من طعن وتشكيك في قيم الأمة ومقدساتها التي

يراد بها أن تصبح محل خلاف وجدال لا محل اتفاق وإجماع، وبذلك تدك حصون

الأمة ويسهل غزوها ثقافياً وعقائدياً وقيمياً.

قال الله تعالى: [وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ

ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] [الأنفال ٣٠] .

هذه عجالة عن الخلفية الحقيقية لمشروع الشرفي (لإصلاح التعليم) الذي لم

يتجه إلى المشاكل والعوائق الحقيقية في المناهج التعليمية السابقة، التي أدت بالبلاد

إلى أزمة تعليمية خطيرة مثل كثرة المنقطعين عن التعليم في مختلف المراحل

التعليمية، وأزمة البحث العلمي الذي هو أقرب إلى العدم منه إلى الوجود، وأزمة

التوجيه الجامعي والخريجين وغيرها من المشاكل الهيكلية التي تنخر النظام التعليمي

ككل.

٣- تغيير برامج التربية الإسلامية - مثال -:

لقد كان يطلق على الشرفي من قبل بعض المثقفين - قبل وبعد تعيينه في

الوزارة - أنه وزير صاحب مشروع، بمعنى أنه صاحب أهداف خاصة به يريد

تحقيقها من خلال وصوله إلى الوزارة، فهو ليس وزير تنفيذ فقط. وعلى هذا

الأساس لا غرابة أن نجد أول ما قام به الشرفي في (إصلاح التعليم) هو تغيير

برامج التربية الإسلامية، وذلك لسبب وحيد وهو أن هذه البرامج - رغم كل

الاحترازات حولها - فيها مسحة إسلامية يقف وراءها جملة من الأساتذة المخلصين

الذين وضعوها منذ عهد بورقيبة فكانت حملة مركزة على هذه البرامج، وصفت

فيها بشتى النعوت التي تنم عن موقف التيار التغريبي من الإسلام ككل، وليس من

هذه البرامج فقط، فهذه البرامج في تصورهم سبب في تخريج جيل متطرف عنيف

بسبب دراسته لمفهوم الجهاد في الإسلام، فكان التغيير هو أول خطوة قام بها

الشرفي دون استشارة الأساتذة المدرسين للمادة، ولا لجنة متابعة البرامج في

الوزارة التي أقيل رئيسها الشيخ محمد بن إبراهيم الأستاذ في الجامعة الزيتونية

وإمام جامع الفتح بالعاصمة دون سابق إعلام، ووقع الاعتماد في إعداد البرامج

الجديدة على من يسمون بجماعة اليسار الإسلامي من حيث وقع اختيار رئيسها

حميدة النيفر مستشاراً خاصاً للشرفي للشئون الدينية.

قال الله تعالى: [الْمُنَافِقُونَ والْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ

ويَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ ويَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ]

[التوبة ٦٧] .

فكانت البرامج الجديدة مختلفة تماماً بل مناقضة للأولى على مستوى الأهداف

والمنهج، فأهداف هذه البرامج حسب ما ورد عنهم تتمثل في ترسيخ روح التآخي

والتسامح لدى التلميذ وذلك من خلال الوقوف على مقاصد الإسلام الداعية للمحبة

والتيسير في الدين، أما المنهج في التدريس فهو يعتمد على اجتناب التلقين حتى لا

يقع التعسف على عقل الطفل بل لا بد من الاعتماد على الطريقة الحوارية

الاستنتاجية.

فالملاحظ بصورة جلية من أهداف هذه البرامج أنها تعميمية لا يمكن للتلميذ أن

يعرف من خلالها حتى الضروري من عقائد الإسلام وشرائعه فكيف يمكن الحديث

عن مقاصد الإسلام دون معرفة أحكامه التفصيلية المؤدية للمقاصد الإسلامية، ولكن

دعوة هؤلاء الضالين - ممن يسمون أنفسهم بالتيار الإسلامي الذين ينادون بالفهم

المقاصدي للإسلام - هي ضرب للإسلام نفسه. أما منهج التدريس فهو في ظاهره

إيجابي ولكن المقصود به هو تهميش المادة ونفي التحصيل العلمي للتلميذ من

دراستها فكيف يمكن أن نعتمد الطريقة الحوارية في تدريس الأحكام الشرعية

ونجتنب تلقينها للطفل بحجة عدم التعسف على عقله؟ فمن ينادي بهذا الرأي لا

يمكن أن يكون تصوره تعليم الأطفال الإسلام وأحكامه تعسفاً لا بد من تخليصهم منه.

وعموماً جاءت البرامج الجديدة فارغة من كل محتوى، ضحلة في قيمتها

العلمية فمثلاً على ذلك في برامج الصف الثاني تقرر تدريس الصلاة فنجد أن نصف

الدروس المخصصة لهذا المبحث تتحدث عن جامع الزيتونة وتاريخ جامع الأزهر

وغيرها من المساجد، وليس المقصود من ذلك إبراز دور هذه المساجد التاريخي في

نشر الإسلام ودورها في نشر الإسلام ودورها العلمي المستمر عبر القرون؛ بل

القصد من إدراجها هو تهميش مبحث الصلاة حتى لا تتوفر فرصة حقيقية للتلميذ

ويتعلمها على أسس صحيحة، وهذا ما لاحظه جل الزملاء الأساتذة المدرسين لهذه

المادة.

قال الله تعالى: [وقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وإن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ

مِنْهُ الجِبَالُ] [إبراهيم ٤٦] .

وبذلك يظهر أن تغيير برامج التربية الإسلامية أبرز مثال على الحرب المعلنة

من قبل الشرفي ومشروعه التغريبي على هوية الأمة الإسلامية وعقيدتها وقيمها.

قال الله تعالى: [ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ ولَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ]

[المنافقون ٨] .


(*) نخالف الكاتب الفاضل في قوله: " قبل أن تحصل الردة وتسقط البلاد الخ " فنظام بن علي هو نظام بورقيبة، وما جرى من تغيير في أسلوب التعامل إنما هو تكتيك تقتضيه طبيعة (الاستلام والتسليم بين طاغية خبيث هرم إلى طاغية آخر شاب من زبانيته وتربى على عينيه، لذلك لم نفرح بتلك المبشرات السطحية التي قدم بها الجنرال بن علي بها نفسه هل هي التجربة الأولى في الانقلابات العسكرية في بلادنا؟ وهل نزل هذا الطاغية الصغير من المريخ؟ !
- التحرير -.