للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

مشاهدات في بلاد البخاري

(٢)

د. يحيى اليحيى

٣- صمود المسلمين وتحديهم للإلحاد:

لقد قاوم المسلمون - ولا أعني جميع المسلمين - جميع موجات الكفر

ومخططاته بعود صلب، وهمة عالية، وقناة لا تلين، وعزة بدين الله، وهذا يدل

على أن أولئك القوم كانوا يحملون همّ الإسلام في قلوبهم، ومن كان يحمل همّ

الإسلام في قلبه فلا بد أن يجد مجالاً ومخرجاً لتبليغ دين الله تعالى.

فكان من مظاهر مقاومة المسلمين للإلحاد ما يلي:

١- عدم الاعتراف بالأسماء الرسمية إلا عند المعاملة وفي الجوازات، فلا

تكاد تسمع فيما بينهم إلا الأسماء الإسلامية، بل إن كثيراً منهم لا يحفظ اسمه

الرسمي فقد قابلت عدداً من الطلاب إذا سألته عن اسمه في الجواز لا يعرفه بل

يخرج الجواز ويقرأه عليك! وهذا بحد ذاته تحد صارخ للشيوعية التي تفرض

عليهم هذه الأسماء، ثم بعد ذلك لا يحفظونها ولايتخاطبون بها.

٢- تربية الأولاد على بغض الروس وكراهيتهم، والنفرة من عاداتهم

وتقاليدهم، وهذا أمر عجيب وطيب، فالطفل مثلاً إذا سألته عن جاره الروسي تجده

يبغضه وينفر منه.

وقد سألت أحد الثقات هناك فقلت له: عادة التدخين بين المسلمين قليلة فلم؟

هل هذا راجع إلى قلة الدخان أم غلائه أم ماذا؟ فقال: لا، إن الناس عندنا - يعني

المسلمين - يقولون: التدخين من عادة الروس ولذا فكثير منهم يتركها! ثم سألته:

النساء عندكم متبرجات ومع ذلك فلم أر امرأة تقود السيارة فلماذا؟ فقال: إن قيادة

السيارات من عادة الروسيات والمسلمون يكرهونها.

٣- إرضاع الأطفال بغض الشيوعية، وعداوتها وكذبها، فلقد قابلت عددا

كبيراً من الطلاب - وبعد أن درسوا في مدارس الشيوعية - فإذا سألته هل أحد من

أقاربك شيوعي؟ أشاح بوجهه وكره ذلك السؤال، واستغربه، وقال: أعوذ بالله،

سبحان الله.

٤- تعليم الأولاد أحكام دينهم والاعتزاز به، وهذا على حسب علم أهل البيت

وما تبقى عندهم من أحكام الإسلام، وأقلهم يعلم الشهادتين. ولقد قابلت عدداً من

الأطفال في كثير من المدن والأحياء ووجدت التباين فيما بينهم في معرفة الإسلام،

فبعضهم لا يعرف إلا الشهادتين، وبعضهم لا يعرف إلا بسم الله الرحمن الرحيم،

وبعضهم يحفظ شيئاً من القرآن، وبعضهم يحفظ أسماء الله الحسنى.

ومررت بمدارس قديمة في مدينة خيوة من خوارزم، وأطفال ما بين سن

الثالثة والخامسة، يصعدون على شرفات هذه المدرسة، فقلت لهم - بعد أن

وضعت أصبعي في أذني - الله أكبر، فما شعرت إلا وقد وضعوا أيديهم على آذانهم

وبدأوا يصرخون: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله،

ففرحت - يعلم الله - فرحاً عظيماً.

٥- التعليم السري، وهذا النشاط يدل على أن أولئك القوم كانوا يحملون في

قلوبهم الحرقة على دين الله -عز وجل- على الرغم من قطيعة إخوانهم لهم، ومن

تجاهلهم لهم، وعلى الرغم من هذه الغربة الشديدة، ومن هذا الضغط العجيب الذي

لم يسمع به، ومن فقدان المصاحف وكتب العلم، ومن الفقر وقلة ذات اليد، على

الرغم من ذلك كله فقد قام عدد من المنتسبين إلى العلم بتعليم القرآن، وأحكام

الإسلام، سراً تحت السراديب في حجرات في بيوتهم، وهذا التعليم يتقرب صاحبه

به إلى الله تعالى لا يريد من أحد جزاء ولا شكوراً، فالطالب يسكن في البيت ويأكل

ويشرب وينام ويلبس كل ذلك على حساب صاحب الحجرة. وقد قام نظام الحجرات

على تكليف الأخيار سواء كانوا طلاب علم، أو محبين للخير بأن يضم إليه طالبين

أو ثلاثة ولا يزيد عن خمسة، فإن كان طالب علم فيقوم بتعليمهم كتاب الله، وأحكام

الصلاة والصيام والأحكام الضرورية، ثم يعلمه سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-

وخلفائه الراشدين، ثم يعلمه اللغة العربية والصرف والنحو.

ويشترط أن يكون الطالب من الغرباء، فلا يكون من نفس المدينة أو القرية،

فمثلاً إذا كان المدرس في جمهورية أوزبكستان فالطالب يأتيه من طاجكستان أو من

غيرها، بل إنني وجدت في بعض الحجرات طلاباً يبعدون عن أهلهم بمسافة تقدر

بآلاف الكيلو مترات، وغالباً ما يكون هؤلاء الشباب ممن تخرجوا من المدارس

الثانوية الحكومية الإلزامية، وذلك أن الدراسة الجامعية عندهم ليست إلزامية، بل

تأخذ الجامعات رسوماً على الطالب، وهؤلاء الشباب الغرباء يجلسون عند الشيخ

في الغرفة مدة ثلاث سنوات، لا يزور أهله إلا في الصيف، ولا يخرج من هذه

الغرفة الصغيرة إلا مرة واحدة في الاسبوع للاستحمام - لأن بيوتهم لا يوجد فيها

حمامات - ولقد دخلت بعض هذه الحجرات فرأيت من صبرهم وجلدهم على التعلم

أمراً عجيباً، يفتقده كثير من طلاب العلم في العالم الإسلامي، تجد شاباً في سن

السادسة عشرة أو أكثر جالساً في غرفة مظلمة، والكتاب بين يديه، وليس للتعليم

عندهم وقت محدود فمتى ما زرتهم تجدهم عاكفين على التعلم، وقت الصباح

والظهر والعصر والعشاء وآخر الليل! !

أما إن كان صاحب البيت ليس عنده علم فإن الطلاب يسكنون عنده ويعطون

الكتب للدراسة، ثم يأتي الأستاذ إليهم مرة واحدة في اليوم أو اليومين أو أكثر حسب

بعد المنطقة، وهكذا يمر في سائر الحجرات، فيلتقي معهم في ساعة متأخرة من

الليل خوفاً من أن يطلع أحد عليه فيدارسهم القرآن والسنة، وباقي الدروس.

هذا دأبهم في التعليم منذ سنين طويلة، ولا يعلم بهم أحد حتى جارهم في

البيت، وقد قابلت عدداً كبيراً من هؤلاء الطلاب فوجدت بعضهم يحفظ كامل القرآن

حفظاً جيداً، ولما سألت بعضهم كيف حفظت القرآن؟ قال: في الحجرة، في

جمهورية كذا. قلت له: أليس في هذه الجمهورية التي تسكن فيها حجرات، قال:

بلى، ولكن العلم لا بد له من الغربة، فقلت: على يد من تعلمت؟ قال: على يد

الشيخ عبد الله، قلت: من عبد الله؟ قال: لا أعرفه هذا عندنا عيب، نعم مدة

ثلاث سنوات لا يعرف شيخه وذلك حتى لا تكتشفهم المخابرات. وهذه الطريقة في

التعليم شاملة للجنسين الذكور والإناث، فالمرأة في بيتها وحجرتها بنات تدرسهن،

والأب في حجرته شباب يدرسهم.

وبعد الانفتاح خرج من هذه الحجرات آلاف الطلاب وكلهم يحمل مؤهلاً لا

بأس به من المعرفة، على الأقل مما يعلم من الدين بالضرورة، وعلى حفظ قسط

طيب من كتاب الله -عز وجل-.

٦- تربية الأولاد على حب العربية لغة القرآن، فالأب والأم يربون الأطفال

على حب اللغة العربية وتقديرها، وبعضهم لا يعرفها ولم يسبق له أن رأى

الحروف العربية. وقد حدثني رجل ثقة فقال: كنت ابن عشر سنين فوجدت ورقة

مكتوب فيها بالحروف العربية وقد طرحت على الأرض فأخذتها، ثم بكيت،

وذهبت بها أجري إلى أمي وأقول: هذه أحرف القرآن لا يحترمونها بل يلقونها

على الأرض، فأخذتها أمي وطيبتها - وكان لنا صندوق فيه مصحف - فوضعتها

في المصحف، فلما عرفت العربية وكبرت فتحت المصحف وأخذت الورقة فإذا هي

أنباء موسكو بالعربية! !

إن هذا الصمود ليس شاملاً لجميع المسلمين بل لنسبة كبيرة منهم، فلقد قابلت

عدداً كبيراً من المسلمين لا يعرفون شيئاً عن الإسلام إلا مجرد الانتساب إليه بالاسم

أو النسب.

- يتبع -